الأربعاء، 8 يوليو 2009

يد تذبح



كان المشهد خانقًا كالعادة، في هذا الوقت والتاريخ من العام الهجري وللمرة الثانية من كل عام يكون المشهد هكذا، أجسام متدافعة وحركات متسارعة وروائح تختلف ما بين زكية وكريهة وحقائب محمولة وأصوات صاخبة متداخلة. كانت هذه الليلة هي ليلة عيد الأضحى، وكان المكان هو محطة قطار في إحدى مدن الصعيد الكبرى، وكان سبب هذا الزحام الشديد الذي يحدث مرتين كل عام هجري في ليلتي عيد الفطر وعيد الأضحى هو عودة الكثير من أهل الصعيد الذين يعملون في مدن ومحافظات الوجه البحري والقاهرة والذين يقيمون هناك بشكل مؤقت - أو حتى هؤلاء الذين استقروا هناك – لقضاء أيام العيد في موطنهم الأصلي حتى لا تنقطع لهم عادة كما يرد في الأقوال الشعبية المأثورة.

ووسط كل هذا الصخب والزحام كان هناك طفل صغير قصير القامة نحيل الجسد يمضي بسرعة وخفة بين تلك الأجسام المتدافعة واضعًا ذيل جلبابه الواسع باهت اللون بين أسنانه الصغيرة، كاشفًا عن ساقين نحيلتين ضعيفتين، حاملاً في يده اليسرى وفوق كتفه الأيمن حقيبتين كبيرتين تكادا تطمسان ملامح جسده من كبر حجميهما وتخفياه عن الأعين. كان ذلك المشهد عجيب للغاية، حيث لم يكن ذلك التكوين الجسماني الصغير الضعيف يدل على أية قدرة على حمل أي شيء ولو حتى حقيبة صغيرة، بيد أنه كان من الواضح أن ذلك الطفل يحمل داخل جسده الواهن رجولة قوية كامنة وروح كروح النملة التي تساعدها على حمل أثقال تتخطى بكثير قدرة جسدها على الحمل والتحمل.

كان هذا الطفل يعمل شيالاً في محطة القطار، حيث كان يتيمًا وحيدًا بلا أب أو أم أو أهل وكان يقتات من ذلك العمل ويظل يعمل طوال النهار وفي آخر الليل ينام على أحد أرصفة القطار المهجورة، وقد كان يحتفي بتلك الليلة احتفاءً شديدًا لا لأنها ليلة العيد، حيث كانت تلك الليلة تشبه غيرها من الليالي في ظل ما يعانيه من وحدة، ولكن لوفرة العمل فيها وفي الأيام القليلة التي تسبقها.

واستطاع الطفل بعد مكافحة ومثابرة أن يصل بالحقائب إلى خارج المحطة وأن يضعها داخل السيارة التي سيستقلها صاحب تلك الحقائب لتصل به إلى موطنه الأصلي داخل إحدى قرى الصعيد الصغيرة التابعة لتلك المدينة. وبعد أن وضع الحقائب داخل السيارة اتجه إلى صاحب الحقائب وقال له: "أي خدمة تانية يا بيه؟" فنظر إليه الرجل مبتسمًا وقال له: "تشكر" ثم أعطاه ورقة بعشرة جنيهات قائلاً: "كل سنة وانت طيب."

لم يصدق الطفل عينيه حيث كان ذلك المبلغ مبلغًا كبيرًا لم يكن ليحلم أن يحصله ولو بعد يوم عمل كامل، فنظر إلى الرجل مبتسمًا وملامح الامتنان والسعادة والرضا تتراقص على وجهه، ثم ما لبس أن تركه وهو يردد: "تشكر يا بيه ... ربنا يخليك يا بيه ... ربنا يكرمك يا بيه ... ربنا يباركلك ....".

أحس الطفل أنه يحلق في السماء غائبًا عن الوعي بما حوله من زحام وأصوات مرتفعة وأنفاس ساخنة خانقة، كان كل ما يفعله هو الركض والقفز والرقص فرحًا وعينيه لا تبتعدان عن ورقة العشرة جنيهات التي في يده، ثم ما لبث أن توقف فجأة وكأنه تذكر شيئًا مهمًا يجب عليه أن يفعله، فرفع عينيه عن الورقة التي في يده ناظرًا إلى السماء حامدًا ربه على تلك النعمة التي أنعم بها عليه ثم حول نظره مرة أخرى إلى الورقة قائلاً: "اللهم لك الحمد والشكر."

وفي هذه اللحظة سمع الطفل وقع أقدام ثقيلة تخطو خلفه تجاهه ثم فوجئ بصفعة قوية على رقبته وسمع صوت أجش غليظ من خلفه يقول بسخرية لازعة قاسية: "كل ده قفا ياد!!" ثم أُتبع هذا القول بضحكات عالية مستفزة، وتخطى مصدر هذا الصوت الطفل فإذا به يتجسد في رجل طويل القامة عريض الأكتاف كبير الرأس يحمل في يده اليسرى حقيبة كبيرة. لم يتمكن الطفل من معرفة ملامح وجهه، حيث إن الرجل لم يقف بل فعل ما فعل ثم ذهب وهو يضحك بصوته العالي الغليظ المتحشرج.

فوجئ هذا الطفل بتلك الصفعة القوية التي لم يكن يعتقد أنه قد يصاب بها يومًا من الأيام، ومن هول المفاجأة عليه لم يحرك ساكنًا؛ تلقى الصفعة من الخلف ثم أخذا ينظر بعينين زائغتين إلى ظهر الرجل الذي صفعه بعد أن تجاوزه وأخذ ينظر إليه طويلاً وهو واقف كالتمثال لا يتحرك منه سوى حدقتا عيناه المتابعتين لسير الرجل حتى اختفى خلف أجسام البشر المتزاحمة المتلاصقة خارج محطة القطار.

بعد ما أفاق الطفل مما حدث له نظر حوله فشعر بأن كل الأعين التي تحيط به تنظر إليه وكأن الصوت القوي الذي نتج عن الصفعة قد نبه الجميع، واستطاع رغم حالته أن يميز من بين نظرات الناس إليه نظرات سخرية ونظرات شفقة ونظرات تعاطف. طأطأ الطفل رأسه غير قادر على أن يرفع عينيه مرة أخرى في وجه أحد، ثم ذهب وهو يجرجر خلفه ذيل جلبابه الطويل مصحوبًا بأذيال الخزي والمهانة.

اتجه الطفل مرة أخرى إلى داخل محطة القطار وحاول أن يستكمل عمله لكنه لم يستطع أن يحمل أي شيء، حيث انطفأت بداخله تلك الروح التي كانت تحمل عنه أي ثقل فأصبح جسده لا يقوى على حمل شيء يفوق قدرته الواهنة التي زادت وهنًا فوق وهن وضعفًا فوق ضعف بعد ما حدث له، وزادت عدم قدرته على حمل الحقائب مشاعر الخزي والمهانة التي اشتعلت بداخله فلم يشعر بنفسه إلا وهو يغادر ذلك الزحام إلى خارج المحطة، بل إلى خارج المدينة كلها.

كان الرجل الذي صفع الطفل يعمل موظفًا في إحدى الشركات الحكومية بالقاهرة، ولم يكن متزوجًا رغم تخطي عمره للثلاثين ربيعًا وكان يعيش مع مجموعة من أصدقائه في مسكن واحد. وقد اعتاد هذا الرجل كل عام أن يعود إلى موطنه الأصلي في إحدى قرى الصعيد في آخر أيام شهر رمضان ليقضيها مع أهله ثم يقضي عيد الفطر معهم ويعود مرة أخرى إلى عمله في القاهرة، ولكنه لم يعتد أن يذهب إلى قريته في عيد الأضحى حيث كان يفضل أن يقضيه مع أصدقائه في القاهرة، أما هذه المرة فقد قرر قضاء عيد الأضحى مع أهله في الصعيد لأن أمه كانت قد رجته أن يقضي معهم عيد الأضحى أيضًا في القرية، وبالمرة كي يذبح لها خروفًا كانت قد اشترته في بداية العام الهجري كي تذبحه في عيد الأضحى، وكانت أمه تعلم عنه خبرته وتمرسه في عملية الذبح. ولم يستطع أن يرفض طلب أمه وتوسلاتها فقرر أن يلبي دعوتها وأن يذهب ليقضي معها ومع أهله العيد، ويذبح الخروف!!

وبعد أن سافر ووصل إلى محطة القطار وفعل ما فعله مع الطفل اتجه إلى إحدى العربات الموجودة خارج المحطة والمتجهة إلى قريته، وظل طوال الطريق يضحك على ما فعله مع الطفل حتى لفت أنظار من حوله، إلا أنه لم يأبه بذلك وظل يضحك حتى وصل إلى بيته متجاهلاً أنظار الركاب المصوبة إليه.

اتجه الطفل بعد أن خرج من محطة القطار إلى إحدى القرى الصغيرة المجاورة لتلك المدينة، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل. كان الطفل لا يزال تحت وقع الصدمة وكانت العديد من المشاعر تتصارع وتشتعل بداخله ولم يجد مما حوله ما يطفئ هذا اللهيب، لا شيء سوى الحقول المظلمة وأصوات الضفادع الآتية من بركة صغيرة قريبة وأصوات الصراصير التي تشبه دقات عقارب الساعة في انتظامها. لم يكن أمام الطفل سوى الهروب بعيدًا عن أعين الناس الساخرة والهروب مما يجيش بداخله من مشاعر ملتهبة، ولم يجد وسيلة للهروب خير من النوم، فأصدر اللاوعي عنده أمرًا لوعيه بالنوم فشعر بأن هموم الدنيا كلها التي سقطت فوق رأسه فجأة بعد ما حدث له تثقل رأسه وتغلق أجفانه بقوة، ونظر حوله فوجد في الحقل الذي يمشي داخله "دكة" منصوبة أسفل شجرة كبيرة فاتجه إليها ونام.

وصل الرجل إلى منزله ليجد أمه التي جفاها النوم شوقًا إليه في استقباله، أما إخوته فكانوا قد ناموا. وعندما عرضت عليه أمه أن تحضر له العشاء رفض ذلك قائلاً أنه يريد أن يغرق في ثبات عميق، إلا أنه لم يغمض له جفن قبل أن يحكي لها على ما كان من أمر الطفل وما فعله معه فضحكت أمه وظل هو يضحك حتى غلبه النعاس ونام. وفي الصباح قام مبكرًا فوجد أخوته قد استيقظوا من نومهم قبله فسلم عليهم وهنأهم بالعيد، ورأى أنه ليس هناك ما هو أفضل من أن يقال في صباح هذا العيد سوى قصته مع الطفل فحكى القصة وضحك الجميع، ثم قام فاغتسل ولبس أفضل الثياب واتجه مع إخوته إلى المسجد الجامع لصلاة العيد.

لم يشعر الطفل بعد أن دخل في غيبوبة الهروب التي أصابته – والمسماة بالنوم – إلا بأصوات التكبير الآتية من المسجد الجامع بالقرية التي هرب إليها تخترق مسامعه، فقام من نومه وأخذ يمشي بلا هدف إلى أن وصل إلى مجرى النيل القريب من تلك القرية، فجلس على شاطئه وأخذ يفكر فيما حدث له وينظر فيما حوله، إلى أن شعر برغبة شديدة في أن ينظر إلى نفسه، فاتجه إلى المياه ونظر إليها ليرى أمامه طفلاً نحيلاً واهن الجسد، فشعر بحزن شديد وكأنه يعرف حقيقته لأول مرة وقد فوجئ بشكله، حيث لم يكن ينظر إلى نفسه من قبل بعينيه قدر ما كان ينظر لنفسه بروح الرجل التي كانت تدب في جميع أوصاله وتعينه على ممارسة عمله وحياته، شعر الطفل في هذه اللحظة بأن رجولته قد تحطمت على يد هذا الرجل، تلك الرجولة التي لا يملك سواها في حياته، فأحس بحزن شديد يزحف داخل خلجات نفسه ودمعت عيناه وسقطت منه دمعة في الماء فنتج عنها دوامات ودوائر صغيرة هزت صورته التي رُسمت على صفحة ماء النيل أمام عينيه فازداد حزنه أكثر وأكثر، ثم رفع رأسه لينظر فيما حوله، فأحس بأن كل ما حوله من شجر وحجر يسخر منه وينظر إليه باستهزاء وسخرية، شعر بأن كل ما حوله ينظر إليه كطفل صغير، رأى الأشجار تشير إليه بأغصانها وتقول "هذا هو الطفل الذي ضرب على قفاه"، والسحب في السماء تخرج له ألسنتها وتقول له "أكنت تظن أنك رجل؟!!"، والحجارة تبتسم بسخرية وتقول له "إنك لست إلا طفل صغير يلهو في الطين مع باقي الأطفال ويبلل مرقده حين ينام". وجد كل ما حوله يعيره ويسخر منه إلا شيء واحد؛ نهر النيل، حيث شعر الطفل آنذاك بأنه يفتح له أحضانه في ترحاب وكأنه أب له يحنو عليه ويهدئ من روعه، حينئذٍ لم يفكر الطفل كثيرًا، فلملم بقايا مشاعره المشروخة ورجولته الصغيرة المحطمة وكل ما لديه من ثروة تتمثل في ورقة بعشرة جنيهات، ودون أدنى تفكير قفز في ماء النيل واستسلم له وغاص في أعماق أحضانه الحانية.

في تلك اللحظات كان الرجل قد عاد من المسجد الجامع وذهب إلى بيته ليجد جميع أدوات وأجواء الذبح جاهزة، ولم يصبر أو ينتظر كثيرًا، ونسي أنه لم يبدل بعد ملابس الصلاة فالتقم السكين، وفي لحظات قليلة وخطوات أقل كان قد ذبح الخروف بيد ثابته لا تعرف التردد وكأنها قد خُلقت كي تذبح!!!

وفي اليوم الثاني من أيام العيد، كان بعض الأطفال يلعبون ويلهون على شاطئ النيل فوجدوا جسد طفل صغير يتهادى إلى الشاطئ، وكأن الأمواج الضعيفة للنهر العظيم هي يد أب تهدهد جسد ابنها وتوصله برفق إلى بر الأمان بعد أن أغدق الأب عليه وملأ جسده من حنان افتقده على وجه الأرض ليجده في أعماق النيل، وليرحمه من خزي أُلحق به دون أدنى سبب ودون وجه حق.

أما الرجل فقد أمضى إجازته السعيدة مع أهله ولم ينس أن يحكي قصته مع الطفل لكل من يراه من أهل قريته، وعندما اتجه إلى القاهرة لم ينس أيضًا أن يحكي لأصدقائه أمر الطفل وأخذ كل يوم يحكي قصة الطفل ويضحك، ويتندر بها ويضحك، ويتسامر ويضحك، ويسرد ويضحك، ويحلل ويضحك، وبعد أن ينتهي يدخل في آخر الليل إلى فراشه لينام هادئ البال مطمئن النفس باسم الثغر!!!