الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

نملة


كانت ملكة متوجة على عرش مملكتها، مملكة النمل، وكان لها خدم وحشم ومجلس وحاشية وجند، فإذا أمرت تطاع، وإذا أشارت مجرد إشارة تحرك الجميع لتلبية رغباتها محاولين بشتى الطرق كسب رضاها وتوفير سبل الراحة والحماية لها.


أما هي، فرغم كل ما كانت تتنعم به إلا أنها لم تكن راضية عن وضعها وحالها رغم أنها الملكة، ملكة مملكة النمل، فقد كانت دائمًا تقول لنفسها وللمقربين إليها عندما يتعجبون من عدم رضاها بوضعها كملكة للنمل ومن عدم شعورها بالسعادة لذلك: "هل يجب على أن أشعر بالسعادة لمجرد أنني ملكة لمملكة الظل هذه، وما الفائدة من أن أكون ملكة لمملكة تعيش تحت الأرض في وقت يتنعم فيه غيرنا بالنور والهواء والأضواء، أليس لي الحق في أن أحلم بأن أكون فردًا من أفراد مملكة العمالقة والأضواء وأن أعيش حياتي فوق سطح الأرض؟ ولماذا لا أحلم حتى بأن أكون ملكة متوجة على عرش مملكة العمالقة آمر فيها وأنهي كما أفعل هنا؟ لماذا لا أحلم بكل هذا؟ فليجيبني من لديه الإجابة."


كانت الإجابة تأتيها دائمًا، لكنها لم تكن لتقتنع أبدًا بآراء الحكماء ممن حولها ولا لتصم أذنيها عن أصوات طموحاتها وآمالها وأحلامها. لقد كانت تستمع دائمًا إلى الآراء التي تقول لها إنها يجب أن تقنع بحياتها وألا تحلم بما يفوق قدراتها وإنها يجب أن تعلم أنها مهما بلغت مكانتها في مملكتها فإنها ستظل بالنسبة لعالم العمالقة مجرد "نملة" تسير بين الأقدام فلا يراها أحد ولا يشعر بها أي شخص، وإنها ولو كانت كما تقول ملكة لمملكة الظل فإن في تلك المملكة من الحب والتعاون ما قد لا تجده في أي مكان آخر أو أي مملكة أخرى. كانوا يقولون لها إن الطموح ليس عيبًا في حد ذاته، لكن يجب أن يكون للطموح إطار عقلي يحكمه حتى لا يتحول من أداة بناء وتشييد إلى أداة هدم وتخريب.


قالوا لها كل ذلك وأكثر، لكن صوت الطموح والحلم والأمل بداخلها غلب على صوت الحكمة والقناعة والرضا، فقررت ذات يوم الخروج من "مملكة الظل" إلى مملكة العمالقة والأضواء عازمة ألا تعود مرة أخرى إلى مملكتها ... وهو ما حدث بالفعل.


فبمجرد أن خطت أولى خطواتها خارج مملكتها بدأت تشعر بغربة شديدة لم تشعر بها من قبل على الإطلاق، إلا أن ما بداخلها من آمال وطموح جعلها لا تلتفت إلى أي شيء سوى ما تريد وما تحلم به. وبالفعل أخذت تخطو بعيدًا عن موطنها إلى موطن العمالقة وهي تنظر حولها وعيناها تلمع ببريق الطموح والأمل لدرجة أنها لم تعد تشعر بنفسها ولا بخطواتها ولا تعرف إلى أين تتجه. لقد غابت عن وعيها بما حولها وأخذت تنظر إلى الأضواء التي ملأت شوارع المدينة والخطوات العملاقة التي تسير ذهابًا أو إيابًا والسيارات التي تسير بسرعة كبيرة، وأخذت تستمع إلى الأصوات الصاخبة والضحكات والصرخات وتنصت إلى الهمسات وهي مستمتعة بكل ما ترى وتسمع. ودارت بها رأسها لتغيب أكثر وأكثر عن وعيها وتحلم .. أجل تحلم .. تحلم بنفسها وهي ملكة في هذا العالم تأمر فيه وتنهي مثلما كانت تفعل في مملكتها والكل يحاول قدر استطاعته تلبية رغباتها وإرضائها، تحلم بنفسها ملكة لمملكة العمالقة والأضواء، تحلم بنفسها وقد صارت أقوى من الجميع رغم ضآلة حجمها بالنسبة لهذا العالم الذي انتقلت إليه بعد أن أصبحت ملكة ومالكة له.


كانت خطواتها قد وصلت بها آنذاك إلى منتصف أحد أرصفة المدينة، وكان الحلم وقتها قد بلغ بها منتهاه لدرجة أنها لم تشعر بذلك الخطر القادم من بعيد. فقد شاهد طفل كان يسير مع أمه عند بداية هذا الرصيف قطة ترقد عند نهايته، فأراد أن يلعب معها، فأفلت يد أمه وأخذ يجري بأسرع ما لديه في اتجاه القطة .. ومن قبلها النملة.


أفاقت النملة الملكة على وقع خطوات الطفل الصغير وهو يجري في اتجاهها، فأصابها الفزع وحاولت النجاة بنفسها من الهلاك فاتجهت إلى اليمين، ثم إلى اليسار، والخطوات تقترب، فاتجهت إلى الأمام، ثم إلى الخلف، والخطوات تقترب إلى أن فقدت تمامًا السيطرة على حركاتها فأخذت تدور حول نفسها. كل ذلك والخطوات تقترب أكثر وأكثر إلى أن جاء موعد الخطوة الأخيرة في اتجاه النملة، ولسوء حظها كانت القدم الصغيرة العملاقة تتجه إلى موقعها تمامًا، وفي تلك اللحظة أصاب جسدها الشلل التام، فتسمرت مكانها وتعلقت عيناها بالقدم التي كانت تخطو في اتجاهها .. وبدأت قدم الطفل ترسل بظلالها على المكان الذي تقف فيه النملة بعد أن رفعها في الهواء ليخطو بها الخطوة الأخيرة، بدأت الدنيا تظلم أمام عينيها، أخذ الظلام يخيم على مكانها، أخذ يخيم على طموحاتها، أخذ يخيم على آمالها وأحلامها، وأخذ الظلام يزداد شيئًا فشيئًا إلى أن ساد الظلام التام ... وفي لحظة واحدة انتهى كل شيء.