السبت، 17 أكتوبر 2009

الروح غالية


كان الجو بالخارج شديد البرودة، أما في الداخل فكانت الحرارة مرتفعة خانقة. ففي الخارج كان الشتاء والهواء البارد النشط والأمطار التي تنهمر بغزارة، لكن بالداخل، داخل إحدى عربات قطار مترو الأنفاق كانت الأنفاس تلهب الجو وتجعله حارًا خانقًا خاصة في ظل تقارب الأجساد وتلاحمها وتشابكها وكأنها الجسد الواحد. كانت العربة، مثلها مثل باقي عربات المترو، مليئة بالركاب لدرجة لا تسمح بدخول أي أفراد جدد إليها إلا من خلال وسائل مساعدة خارجية متمثلة في الدفع من قبل بعض المنتظرين على رصيف المحطة باليد والجسد وأحيانًا بالقدم!!!

وفي الداخل أيضًا الأوضاع غريبة، لكنها غريبة فقط على من لا يألفها من الركاب الجدد، أما المخضرمون وذوو الخبرات والباع الطويل داخل عربات المترو فهو وضع مألوف يعايشونه يومًا بعد يوم. ففي الداخل كان الركاب يقفون في أوضاع غريبة، فمنهم من يضع إحدى يديه فوق رأسه والأخرى حبيسة الزحام بالأسفل، ومنهم من يقف على قدم واحدة والأخرى معلقة أو موضوعة على قدم فرد آخر، وكل فرد من هؤلاء يظل على الوضع الأول الذي دخل به العربة ويستمر ذلك الوضع أحيانًا لأكثر من محطة حتى يصبح هناك متسع لضبط الأوضاع والأجساد قدر المستطاع، أما من يمسكون بأي شيء في أيديهم فإنهم يتشبثون به بكل قوتهم لأن سقوط أي شيء قد يعني ضياعه إلى الأبد!!!

وفي الداخل كانت هناك حلقات بلاستيكية مدلاة من قضبان حديدية مثبتة بسقف العربة، تلك الحلقات متناثرة بشكل غير منتظم، ومنها الكامل ومنها الممزق، والعجيب أن معظم الركاب لا يمسكون بها ولهم حكمة في ذلك، حيث إنه لا توجد مساحة كافية تسمح لأي فرد بالوقوع داخل العربة، فعلام التشبث بها إذًا، وبالتالي تتحول أهمية تلك الحلقات من كونها مساعد على الوقوف داخل العربة إلى مساعد على البقاء داخلها حتى لا ينجرف أي من الركاب مع التيار البشري خارج العربة ليجد نفسه على رصيف إحدى المحطات التي لا يقصدها. وبالتالي يصبح جميع من بالداخل كتلة بشرية واحدة تهتز وتتحرك يمينًا ويسارًا وللأمام والخلف نتيجة لحركة المترو، فلا فرق بين رجل وامرأة أو بين طفل وشاب وعجوز أو بين مسلم ومسيحي، فالكل واحد وكأن عربات المترو تقف كأحد أهم رموز الوحدة الوطنية في مصرنا المحروسة.

وداخل عربة المترو تقع العيون على مشاهد عديدة، لكنها لا تميز إلا الغريب منها، مثل مجموعة من الشباب وقفوا يضحكون ويسخرون من حالهم وحال باقي الركاب غير عابئين بالوضع الذي يعايشونه، ورجل عجوز جالس على أحد مقاعد العربة غير قادر على فتح أجفانه المثقلة بالنوم، فيغفو وتميل رأسه إلى أن تكاد تسقط منه على صدره فيستيقظ من غفوته ويفتح أجفانه ويعدل من وضع رأسه ثم تعاود أجفانه ورأسه الكرّة من جديد، ومجموعة من المثقفين الذين يتصفحون الجرائد خاصة ما بها من مانشيتات عريضة وأخبار رياضية، وبعض الفضوليين مختلسي الثقافة ممن يحيطون بهؤلاء وتتقلب أبصارهم مع قلب أصحاب الجرائد لصفحاتها وتميل أعناقهم ورؤوسهم للحاق ببعض بقايا المانشيتات قبل أن تذهب بلا عودة بين ثنيات الجريدة بعد قلب صاحب الجريدة للصفحة، إلى غير ذلك من المشاهد المميزة المعتادة!!

وفي إحدى المحطات، وبقوة الدفع استطاع أحد الأفراد الركوب وكان هذا الراكب واضعًا كمامة على أنفه وفمه. وبمجرد أن صعد على متن العربة بدأت الأنظار تصوب إليه، وبدأت التعليقات الهامسة في الانتشار داخل الأجواء المحيطة به، لكن تلك التعليقات لم تصبح مسموعة جريئة إلا بعد نزول هذا الرجل في إحدى المحطات.

وبمجرد نزوله افتتح أحد الركاب التعليقات قائلاً:-

- "يا سلام يا جدعان .. عيشنا وشفنا الناس راكبين المترو بكمامة ههههههه"

وكان هذا التعليق بمثابة شرارة البداية لطوفان من التعليقات الظريفة المتعاقبة ...

- "بكرة الناس تمشي باسطوانات أكسجين على ضهورهم ههههههه"

- "أو أنابيب بوتاجاز ههههه"

- "طب وليه منخليش كل واحد فينا يلبس كيس بلاستك في راسه هههههههه"

- "أو شراب فيليه ههههههههه"

واستمرت التعليقات إلى أن قال أحد الركاب ممن يظهر عليه التفلسف وادعاء الحكمة:- "مش عارف والله الناس ماسكة في الدنيا بإديها وسنانها كده ليه"

- "عندك حق يعني هي فيها إيه عدل يتحب ... ولا إيه يا عم الحج؟" قالها أحد الشباب الساخرين بصوت مرتفع موجهًا حديثه إلى الرجل العجوز الناعس فأجابه بعد أن انتفض مستيقظًا من غفوته "هه!! آه آه امال إيه" فضحك الجميع وابتسم الرجل العجوز.

واستطرد فرد آخر بعد أن توقف الجميع عن الضحك:-

- "صحيح والله دالموت علينا حق واللي بيموت بيستريح"

- "آه والله والموت بقى أهون من العيشة اللي احنا عايشينها"

- "يعني احنا هناخد زماننا وزمن غيرنا"

- "أمال فين التُكال على ربنا"

- "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"

- "أهو الوسوسة اللي احنا فيها دي هي اللي جابتلنا الأمراض"

- "صحيح والله" ...... هاتشوووووووو (وعطس هذا الراكب) "الحمد لله"

- "يرحمكم الله" "

- "يرحمكم الله"

- "يرحمكم الله"

- "يرحمنا ويرحمكم"

وأثناء قلب أحد مثقفي عربة المترو لصفحات الجريدة قرأ خبرًا لأحد الجالسين إلى جواره بصوت عال ...

- "وفاة أول حالة بمصر نتيجة الإصابة بإنفلونزا الخنازير"

- "يا ساتر يا رب، ودي فين الحالة دي؟"

- "في القاهرة"

- "اللهم احمينا واحفظنا"

- هاتشووووووووو (وعطس نفس الراكب مرة أخرى) ... "الحمد لله"

نظر أحد الركاب إلى هذا الرجل وسرح وظهر عليه ملامح الانزعاج، لكنه ما لبث أن هز رأسه وكأنه يطرد منها الأفكار الشريرة ثم قال له "يرحمكم الله". وعاد الانتباه مرة أخرى إلى الدائرة التي يجلس فيها المثقفون مقتنوا الجرائد.

- "إنما هو المرض ده بينتشر بسرعة"

- "آه طبعًا. دا بيقولك إن واحد بس حامل للعدوى في عربية زي اللي احنا راكبينها دي ممكن يعدي كل ركابها"

- هاتشووووووووووووو (وعطس الراكب نفسه للمرة الثالثة) "الحمد لله"

لكن هذه المرة لم يرد عليه أحد وتحولت أنظار الجميع إليه، وتحولت النظرات المصوبة إليه تدريجيًا من نظرات ود إلى نظرات عادية بلا مشاعر إلى نظرات شك إلى نظرات اتهام ... هاتشووووووووو (وجاءت العطسة الرابعة)، وعندها بدأ بعض الركاب في وضع أيديهم على أنوفهم وأفواههم وبدأ بعض آخر في إخراج مناديل ورقية ليضعوها على أنوفهم وأفواههم وبدأ الجميع رغم تكدس الركاب في الابتعاد عن المحيط الذي يقف فيه "الرجل الذي عطس" إلا أنهم فوجئوا بعطسة أخرى قادمة من رجل آخر من مكان آخر داخل العربة، وهنا أصيب الجميع بالهلع وزاغت الأعين وشعروا بالمحاصرة.

وتستمر العطسات على مدار محطتين متتاليتين بالشكل نفسه دون تغير، أما شكل العربة ووضعها فهو الذي تغير كثيرًا، فقد أصبحت دونًا عن باقي عربات القطار شبه خالية من الركاب. وفي تلك الأثناء ومنذ البداية، كان أحد الركاب ممن يظهر عليهم الحكمة الفطرية يتابع الأحداث المتلاحقة ويبتسم لما يراه من ردود فعل تجاه الأحداث، وعندما أصبح أحد المقاعد خاليًا نتيجة هجرة أهل العربة إلى العربات الأخرى هرع إليه وجلس ثم ضحك بصوت عال مسموع وهو يخرج منديلاً قماشيًا ليضعه على فمه وأنفه هو الآخر قائلاً: "صحيح يا ولاد ... الروح غالية".