السبت، 15 أغسطس 2009

مرآة الأحلام


تذكرها فجأة ، وشعر برغبة شديدة في النظر إليها، إلى مرآة الأحلام، إلى السر الذي اختصه به جده. فقد كان جده من محبي اقتناء التحف النادرة وكان من بين تلك التحف مرآة الأحلام التي كانت تجسد لمن ينظر إليها وهو يعرف سرها ما يحلم به في مستقبله، وكان جده يضعها في مكان خاص بالدور السفلي للبيت القديم، بيت العائلة الذي تربى فيه الجميع، وقبل وفاته بأيام أحضر حفيده الذي ارتبط به بشدة على انفراد وأخبره بالسر، سر مرآة الأحلام، ومن وقتها أخذ الحفيد يتردد من وقت لآخر على البيت القديم، حتى بعد أن أصبح مهجورًا وفرغ من ساكنيه، ليطمئن على مقتنيات جده وينظر إلى المرآة ليرى أحلامه متجسدة أمامه.

لم يكن هذا الشاب يدري السبب الذي أبعده عن الذهاب إلى البيت القديم والنظر في مرآة الأحلام كل تلك الفترة، فربما يكون قد شغلته رغبته في تحقيق أحلامه عن رغبته في رؤيتها داخل المرآة. لكن بمجرد أن تذكرها، وفي دقائق قليلة، كان قد بدل ثيابه واتجه إلى البيت القديم. وبمجرد أن فتح باب البيت أضاء جميع أنواره ثم اتجه إلى مكان المرآة على الفور دون أي تريث، وبحركات سريعة كان قد رفع غطاء وضعه هو بنفسه من قبل على المرآة وبدأ في تنظيف ما أهاله الزمن من غبار وأتربة على الأحلام ... عفوًا ... على مرآة الأحلام.

وبعد أن انتهى من تنظيفها وقف أمامها مغمضًا عينيه وكأنه يريد أن يضفي نوعًا من التشويق على الموقف قبل أن يفتح عينيه ليرى حلمًا جديدًا متجسدًا أمامه، ولكن بعد أن فتح عينيه حدثت مفاجأة لم يكن يتوقعها .... نظر إلى المرآة فلم ير إلا نفسه.

كان من الواضح أن المشهد كان مفاجئًا له وغريبًا عليه لأن الحلم الذي كان متشوقًا إلى رؤيته لم يظهر، وبعد لحظات من الذهول وانعدام رد الفعل بدأ ينظر يمينًا ويسارًا، ثم تحرك تجاه المرآة وبدأ ينظفها مرة أخرى بشتى الطرق، لكن كان من الواضح أنها أصبحت نظيفة ولا تحتاج إلى أي تنظيف آخر، ولكنه لم ييأس وظل يحاول بشتى الطرق وينقل المرآة من مكانها ثم يعيدها مرة أخرى والمشهد واحد لا يختلف، وبعد مرور دقائق – بل ساعات – يأس من محاولاته، فأغلق البيت القديم وعاد إلى منزله.

وفي اليوم التالي قرر أن يذهب مرة أخرى إلى هناك، فلربما كان لليوم الماضي تأثيرًا سلبيًا أبطل عمل المرآة، وبالفعل ذهب وفعل مثلما فعل في اليوم الأول وأكثر، غير أن الأمور لم تختلف كثيرًا إلى أن هزمه اليأس ليعود مرة أخرى إلى منزله، لكن كان بداخله قرار بأن يحاول مرة أخرى في اليوم التالي أملاً في عمل المرآة ورؤية حلمه أو أحلامه. وعندما عاد إلى منزله لم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير في أمر المرآة، فجلس في غرفة نومه، على طرف سريره، يفكر فيما حدث.

هل أصابت مرآة الأحلام مشكلة ما؟ سأل نفسه هذا السؤال لكنه قطع سؤاله بإجابة نافية؛ لا، لقد أكد لي جدي أن عمل تلك المرآة وسرها دائمان بدوامها. إذًا فماذا يحدث؟ لقد جربت تلك المرآة من قبل أكثر من مرة؛ لقد استخدمتها في بداية مرحلة المراهقة فرأيت فيها فتاة فاتنة الوجه ممشوقة القوام ذكية الملامح وكان هذا هو ما أحلم به في تلك الفترة بالفعل، كما استخدمتها بعد التخرج من الجامعة فرأيت نفسي في عمل محترم زرع بداخلي الأمل في مستقبل مزدهر وكان هذا أيضًا ما حلمت به في تلك الفترة، واستخدمتها بعد أن التحقت بالعمل فرأيت نفسي وسط زوجتي وأولادي في أسرة سعيدة مستقرة وكان هذا أقصى ما أحلم به في تلك الفترة، فماذا حدث للمرآة إذًا؟

توقف الشاب بعد أن سأل نفسه هذا السؤال لحظة عن التفكير وكأن ذكرياته عن أحلامه السابقة قد ذكرته بذكرياته عما آلت إليه تلك الأحلام. فالفتاة التي حلم بها ثم وجدها وأحبها تركته فجأة وبعد علاقة قوية استمرت فترة ليست بالقصيرة دون أية مقدمات أو أسباب، حتى أنها لم تكبد نفسها عناء الشرح وتوضيع وتبرير ما فعلته معه. أما العمل الذي التحق به وكان شديد السعادة به، فما أن بدأ يستقر بداخله ويعرف خباياه حتى فوجئ بطبيعة بيئة هذا العمل وما فيه من مجاملة ومحاباة وظلم وقتل للطموح والمواهب وإحباط وتثبيط للهمم. وأما الأسرة التي كانت أقصى أحلامه وأمانيه فقد ضاعت قبل أن تولد وذلك لضياع أهم عناصرها؛ الفتاة التي أحبها وحلم بها والظروف الاجتماعية غير المناسبة التي لا تساعد في بناء أسرة سعيدة.

وجد هذا الشاب نفسه يتجه دون إرادة منه إلى سؤال شديد القسوة عليه، لكن لا مفر منه؛ بماذا أحلم الآن؟ وبمجرد أن ترددت أصداء ذلك السؤال بداخله خارت قوى التفكير لديه وشل عقله، ولكن بعد أن وصل إلى قرار مهم؛ وهو أنه لن يتجه إلى مرآة الأحلام في اليوم التالي، ولا في أي يوم قريب قادم ....

آآآآآآآآآآآآه ... قالها وجسده ينهار منه مستويًا على سطح السرير، قالها وأخرج معها كل ما بداخله من حزن ويأس وألم وإحباط، قالها ثم صمت في وقت تعلقت فيه عيناه بسقف الحجرة ووضع كلتا يديه على رأسه، فقد علم وقتها فقط أن المشكلة ليست في المرآة، إنه لم ير أي شيء في مرآة الأحلام لأنه ببساطة لم يعد يحلم بأي شيء ......

الاثنين، 3 أغسطس 2009

الخلاص


كان اليوم عاديًا ككل الأيام التي تمر عليه، استيقظ في الصباح الباكر على صوت رنات المنبه الخاص به فأوقف رنينه لدقائق قليلة ونام، إلا أنه عاود ليصدر رناته المزعجة التي توقظ الميت من ثباته العميق مرة أخرى وكأنه يصر على إيقاظه فأوقف رنينه مرة أخرى وتكرر ذلك أكثر من مرة حتى استسلم في النهاية وقام من مرقده ثم ذهب إلى الحمام فغسل وجهه وتوضأ وصلى الصبح ثم بدل ثيابه واتجه إلى عمله.

ورغم قرب مكان العمل من منزله، إلا أنه كان يفضل دائمًا أن يركب أية مواصلة متوفرة في هذا الوقت من الصباح للاتجاه إلى هناك، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استقل أول حافلة واتجه إلى عمله. وحتى يوم العمل كان ككل أيام العمل التي تمر عليه، يوم طويل ممل يشتاق إلى نهايته كما يشتاق الطفل الصغير إلى يوم العيد والحبيب إلى لقاء حبيبه. وعلى الرغم من أن كل ما سبق قد يكون مختلفًا بالنسبة لمن يقرأ تلك السطور، إلا أنه كان بالنسبة لذلك الرجل روتينًا يوميًا يمارسه كل يوم للدرجة التي تمكنه من ممارسة كل أنشطة يوم عمله دون حتى أن يركز فيها أو كما يقولون "وهو مغمض العينين".

وعلى الرغم من أنه قد اعتاد على الروتين اليومي للعمل وللحياة بوجه عام، إلا أنه كان ذلك اليوم غريب الأطوار للدرجة التي دفعته إلى الدخول في مناقشة حادة مع أحد زملائه ما لبثت أن تحولت إلى شبه شجار جعلته يغضب من زميله ويترك العمل بعد انتهاء موعده على الفور دون حتى أن يلقي التحية على أي من زملائه.

وبعد نزوله إلى الشارع قرر، ولأول مرة منذ فترة طويلة، أن يعود إلى منزله مشيًا على الأقدام، فقد راوده آنذاك شعور داخلي غريب تولدت عنه رغبة شديدة للسير في الهواء الطلق. قد يكون ما سيطر عليه وقتها هو شعورًا بالملل أو اليأس، شعورًا بتبلد المشاعر، بل بتبلد الحياة من حوله، والأصعب والأخطر من ذلك أنه قد يكون شعورًا بتبلد الحياة بداخله، بتبلد روحه. لقد شعر وقتها أنه لا يعرف، لا يعرف حتى ماهية ما لا يعرفه، لا يعرف طبيعة ما يدور حوله وبداخله ولا يفهمه، لا يعرف طبيعة مشاعره ولا طريقة تفكيره ولا يملك أية رؤية للواقع أو المستقبل أو حتى للماضي، لا يعرف حلولاً لمشكلاته التي لا يعرفها، لكن الشيء الوحيد الذي كان يدركه هو أن هناك شيء ينقصه وينقص حياته حتى ينتهي تبلدها وتمتلئ بالحيوية والبهجة والسعادة، لكن معرفته للأسف لا تكتمل أبدًا، حيث إنه لا يعرف حتى هذا الشيء الحيوي الذي ينقص حياته. إنه حين يفرح يشعر أن هناك شيء ينقصه وينقص تلك الفرحة، وحين يضحك يشعر أن ضحكته غير مكتملة ولا تخرج من القلب، وحين يحب يشعر أن المشاعر ناقصة وليست كما كان يتخيلها أو يراها في أفلام السينما أو يقرأ عنها في الروايات.

وفي طريقه إلى منزله ظل يفكر كثيرًا، إنه من الغريب أن حياته مستقرة، مستقرة جدًا، فهناك المنزل وهناك العمل وهناك الأصدقاء والعائلة، لكن دائمًا كان هناك شيء ينقص حياته ويكدر ذلك النقصان صفوها. قد يكون الاستقرار هو السبب؟ ربما، خاصة أن الاستقرار إذا زاد عن الحد انقلب إلى شعور بالرتابة والملل، لكن أيًا كان السبب فلا بد أن يجد ما ينقصه. قد يكون ما ينقصه هو التغيير؟ ربما، لكن من أين يأتي هذا التغيير وقد ضاقت الدنيا بأهلها وحاصرتهم في نطاق ضيق خانق يصعب معه التغيير. أين الحل إذًا؟ لقد كان في البداية لا يهتم بالبحث عن الحلول أو عن الشيء الذي ينقص حياته، أما الآن وقد بدأ انفعاله يتزايد وبدأت حياته تلف حبال الملل والضيق والحزن حول رقبته وبدأ يخسر من حوله نتيجة اكتئابه فلا بد وأن يبحث عن حل. أجل لا بد وأن يجد الحل.

فجأة شعر بقلبه يخفق بشدة ثم بقشعريرة في بدنه كله، وإذا بلسانه يتحرك ويقول "يا رب". وفجأة أيضًا أفاق من رحلة تفكيره الطويلة على صوت آلة تنبيه سيارة تتردد بشكل جنوني، وإذا به وقد وجد نفسه واقفًا في وسط طريق سريع، وإذا بسيارة منطلقة تجاهه بأقصى سرعة، ورغم ذهوله الشديد استطاع أن يميز بين العديد من الأصوات والمشاهد، بين صوت آلة التنبيه الجنونية وصوت صريخ عجلات السيارة وهي تحاول دون فائدة التشبث بالأرض ثم صوت ارتطام عنيف ومزيج من أصوات زجاج يتكسر وعظام تتهشم وشهقات ذهول واستغاثات متلهفة بستر الله ثم صوت جسده وهو يرتطم بالأرض. كما استطاع أن يميز وجه السائق المزعور وهو يسير بسرعته الجنونية تجاهه ثم الدنيا وهي تدور به وبجسده في الهواء ثم أوجه العديد من البشر التي بدأت بوجه واحد ثم تعاقبت الأوجه وتعاقبت الأصوات بين سائل عن حاله وسائل عن رقم الإسعاف وسائل رحمة الله. إلا أنه في غضون ذلك، وبمجرد أن استقر جسده على الأرض شعر براحة غريبة لم يشعر بها منذ طفولته، شعر بأن همومه وضيقه وأحزانه تتبخر من جسده ويحل بدلاً منه نسمات ملائكية باردة شجعته على أن يأخذ نفسًا طويلاً روى به جميع أجزاء جسده المتعطش للراحة والرحمة، شعر لأول مرة منذ أن ودع طفولته براحة تامة وسعادة كاملة لا ينقصها أي شيء، وكأنه قد وجد الخلاص من كل همومه وأحزانه وأعبائه. وفي الوقت الذي شعر فيه كل من حوله بالجزع والقلق عليه أخذ هو يقلب بصره بين وجوه الناس ويتنقل بينها ببساطة وسهولة عجيبة إلى أن تعلق بصره بأبواب السماء فشخصت عيناه وابتسم ابتسامة طفولية بريئة، ثم تحركت شفتاه بآخر كلمات له في الحياة "الحمد لله" وصمتت بعد ذلك إلى الأبد.