الاثنين، 3 أغسطس 2009

الخلاص


كان اليوم عاديًا ككل الأيام التي تمر عليه، استيقظ في الصباح الباكر على صوت رنات المنبه الخاص به فأوقف رنينه لدقائق قليلة ونام، إلا أنه عاود ليصدر رناته المزعجة التي توقظ الميت من ثباته العميق مرة أخرى وكأنه يصر على إيقاظه فأوقف رنينه مرة أخرى وتكرر ذلك أكثر من مرة حتى استسلم في النهاية وقام من مرقده ثم ذهب إلى الحمام فغسل وجهه وتوضأ وصلى الصبح ثم بدل ثيابه واتجه إلى عمله.

ورغم قرب مكان العمل من منزله، إلا أنه كان يفضل دائمًا أن يركب أية مواصلة متوفرة في هذا الوقت من الصباح للاتجاه إلى هناك، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استقل أول حافلة واتجه إلى عمله. وحتى يوم العمل كان ككل أيام العمل التي تمر عليه، يوم طويل ممل يشتاق إلى نهايته كما يشتاق الطفل الصغير إلى يوم العيد والحبيب إلى لقاء حبيبه. وعلى الرغم من أن كل ما سبق قد يكون مختلفًا بالنسبة لمن يقرأ تلك السطور، إلا أنه كان بالنسبة لذلك الرجل روتينًا يوميًا يمارسه كل يوم للدرجة التي تمكنه من ممارسة كل أنشطة يوم عمله دون حتى أن يركز فيها أو كما يقولون "وهو مغمض العينين".

وعلى الرغم من أنه قد اعتاد على الروتين اليومي للعمل وللحياة بوجه عام، إلا أنه كان ذلك اليوم غريب الأطوار للدرجة التي دفعته إلى الدخول في مناقشة حادة مع أحد زملائه ما لبثت أن تحولت إلى شبه شجار جعلته يغضب من زميله ويترك العمل بعد انتهاء موعده على الفور دون حتى أن يلقي التحية على أي من زملائه.

وبعد نزوله إلى الشارع قرر، ولأول مرة منذ فترة طويلة، أن يعود إلى منزله مشيًا على الأقدام، فقد راوده آنذاك شعور داخلي غريب تولدت عنه رغبة شديدة للسير في الهواء الطلق. قد يكون ما سيطر عليه وقتها هو شعورًا بالملل أو اليأس، شعورًا بتبلد المشاعر، بل بتبلد الحياة من حوله، والأصعب والأخطر من ذلك أنه قد يكون شعورًا بتبلد الحياة بداخله، بتبلد روحه. لقد شعر وقتها أنه لا يعرف، لا يعرف حتى ماهية ما لا يعرفه، لا يعرف طبيعة ما يدور حوله وبداخله ولا يفهمه، لا يعرف طبيعة مشاعره ولا طريقة تفكيره ولا يملك أية رؤية للواقع أو المستقبل أو حتى للماضي، لا يعرف حلولاً لمشكلاته التي لا يعرفها، لكن الشيء الوحيد الذي كان يدركه هو أن هناك شيء ينقصه وينقص حياته حتى ينتهي تبلدها وتمتلئ بالحيوية والبهجة والسعادة، لكن معرفته للأسف لا تكتمل أبدًا، حيث إنه لا يعرف حتى هذا الشيء الحيوي الذي ينقص حياته. إنه حين يفرح يشعر أن هناك شيء ينقصه وينقص تلك الفرحة، وحين يضحك يشعر أن ضحكته غير مكتملة ولا تخرج من القلب، وحين يحب يشعر أن المشاعر ناقصة وليست كما كان يتخيلها أو يراها في أفلام السينما أو يقرأ عنها في الروايات.

وفي طريقه إلى منزله ظل يفكر كثيرًا، إنه من الغريب أن حياته مستقرة، مستقرة جدًا، فهناك المنزل وهناك العمل وهناك الأصدقاء والعائلة، لكن دائمًا كان هناك شيء ينقص حياته ويكدر ذلك النقصان صفوها. قد يكون الاستقرار هو السبب؟ ربما، خاصة أن الاستقرار إذا زاد عن الحد انقلب إلى شعور بالرتابة والملل، لكن أيًا كان السبب فلا بد أن يجد ما ينقصه. قد يكون ما ينقصه هو التغيير؟ ربما، لكن من أين يأتي هذا التغيير وقد ضاقت الدنيا بأهلها وحاصرتهم في نطاق ضيق خانق يصعب معه التغيير. أين الحل إذًا؟ لقد كان في البداية لا يهتم بالبحث عن الحلول أو عن الشيء الذي ينقص حياته، أما الآن وقد بدأ انفعاله يتزايد وبدأت حياته تلف حبال الملل والضيق والحزن حول رقبته وبدأ يخسر من حوله نتيجة اكتئابه فلا بد وأن يبحث عن حل. أجل لا بد وأن يجد الحل.

فجأة شعر بقلبه يخفق بشدة ثم بقشعريرة في بدنه كله، وإذا بلسانه يتحرك ويقول "يا رب". وفجأة أيضًا أفاق من رحلة تفكيره الطويلة على صوت آلة تنبيه سيارة تتردد بشكل جنوني، وإذا به وقد وجد نفسه واقفًا في وسط طريق سريع، وإذا بسيارة منطلقة تجاهه بأقصى سرعة، ورغم ذهوله الشديد استطاع أن يميز بين العديد من الأصوات والمشاهد، بين صوت آلة التنبيه الجنونية وصوت صريخ عجلات السيارة وهي تحاول دون فائدة التشبث بالأرض ثم صوت ارتطام عنيف ومزيج من أصوات زجاج يتكسر وعظام تتهشم وشهقات ذهول واستغاثات متلهفة بستر الله ثم صوت جسده وهو يرتطم بالأرض. كما استطاع أن يميز وجه السائق المزعور وهو يسير بسرعته الجنونية تجاهه ثم الدنيا وهي تدور به وبجسده في الهواء ثم أوجه العديد من البشر التي بدأت بوجه واحد ثم تعاقبت الأوجه وتعاقبت الأصوات بين سائل عن حاله وسائل عن رقم الإسعاف وسائل رحمة الله. إلا أنه في غضون ذلك، وبمجرد أن استقر جسده على الأرض شعر براحة غريبة لم يشعر بها منذ طفولته، شعر بأن همومه وضيقه وأحزانه تتبخر من جسده ويحل بدلاً منه نسمات ملائكية باردة شجعته على أن يأخذ نفسًا طويلاً روى به جميع أجزاء جسده المتعطش للراحة والرحمة، شعر لأول مرة منذ أن ودع طفولته براحة تامة وسعادة كاملة لا ينقصها أي شيء، وكأنه قد وجد الخلاص من كل همومه وأحزانه وأعبائه. وفي الوقت الذي شعر فيه كل من حوله بالجزع والقلق عليه أخذ هو يقلب بصره بين وجوه الناس ويتنقل بينها ببساطة وسهولة عجيبة إلى أن تعلق بصره بأبواب السماء فشخصت عيناه وابتسم ابتسامة طفولية بريئة، ثم تحركت شفتاه بآخر كلمات له في الحياة "الحمد لله" وصمتت بعد ذلك إلى الأبد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق