
كان المجلس على وشك الاكتمال بنا من حيث العدد، حيث لم يكن ينقصنا سوى أحد أصدقائنا الذي اعتدنا منه التأخر عن مثل هذه الجلسات أو حتى عدم الحضور. وعلى الرغم من أن عددنا كان كبيرًا إلا أننا كنا دائمًا نشعر بغيابه وتأثير ذلك علينا، لكننا كنا نتجاهل ذلك التأثير ونحاول الانخراط في حديثنا وتسامرنا وضحكنا كي لا نشعر بغياب أحد. وبالفعل فقد اندمجنا جميعًا في حديث فكاهي ضاحك أخذنا فيه نستهزئ بما يجري حولنا وبظروف معيشتنا وببعض أصدقائنا، وحتى بأنفسنا. واستمر الضحك طويلاً، وفي الوقت الذي يئسنا فيه من حضور صديقنا الغائب بجسده الحاضر بتأثيره، إذا به يدخل علينا وعلى وجهه كالعادة ملامح الوجوم والشرود ويلقي علينا السلام في غير اكتراث بما نفعل ولا نوبة الضحك الشديدة التي اجتاحتنا.
هو: السلام عليكم.
جميعنا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أنا: واكتملت الجلسة أخيرًا، حمدًا لله على سلامتك.
هو: سلمك الله.
(لاحظت بعد ذلك حدوث حالة من الصمت والسكون بيننا فبدأت أدير دفة الحديث مع صديقنا وسط حالة من صمت الجميع.)
أنا: علام التجهم يا فتى؟!
هو: وعلام الضحك؟!!
أنا: لك الحق في سؤالك هذا فلقد فاتك من حديثنا الكثير، ولذا فأنت لم تسمع ما سمعنا ولم تر ما يضحكنا.
هو: وأنتم من الواضح أنه قد فاتكم الكثير من هذه الدنيا فلم تروا ما رأيت منها ولم تعرفوا ما يجعلني دائمًا متجهم.
أنا: وما الذي رأيته أنت من هذه الدنيا ولم نره نحن يا فيلسوف العصر والأوان؟!!!
هو (بعد ابتسامة امتعاض وسخرية): ألم تر ما رأيت من هذه الدنيا؟ ألم تسمع ما سمعت منها؟ ألم تعرف عنها ما عرفت؟ أم أنك تعيش في دنيا أخرى لا أعرفها؟
أنا (في انفعال متصاعد): إنني لا أحب هذا النوع من التفلسف، أخبرني إن كنت قد رأيت شيئًا لم نره!
هو: كما تشاء، سوف أخبرك عما رأيته.
رأيت الأسماك الكبيرة تأكل صغير الأسماك في البحر، رأيت الشرور والأحقاد والضغون تلوث ما نشربه من ماء النهر، رأيت القطة تأكل أبناءها ومبدؤها في الحياة بيدي لا بيد عمرو، رأيت العفة تختبئ داخل الديار ولا يظهر أمام الأعين إلا الفُجر.
أتدري ما رأيت أيضًا.....
رأيت الحقيقة تمشي على قدم عرجاء، رأيت التعري يطعن بخنجر مسموم قلب الحياء، رأيت غيوم الظلم تملأ عنان السماء، رأيت موكب العرس يخترق سرادق العزاء، والملائكة ترتدي على البشر ثياب الحداد السوداء، والناس تتقطع أيديهم من التصفيق وتتسع أفواههم من الضحك وتدمى أعينهم من البكاء، رأيت الفراغ يملأ حياتنا والأهداف تتقطع إلى أشلاء، رأيت الحزن يفتت قلوب الحجارة الصماء، والأشجار جميلة المنظر لكنها لا تثمر وتعوي الرياح داخل فروعها الجوفاء، رأيت الفتنة تسود والنيران تشتعل ولا يزيد لهيبها إلا الماء، رأيت أسنان الضعف تنتشر في أفواه يقيننا الهثماء، رأيت ذئاب البشر ترعى داخل صحراء حياتنا الجرداء، لا يصدهم سوى الأغنام الضعيفة ولا يحول بيننا وبينهم إلا الخواء.
أتعلم ما رأيت أيضًا....
رأيت القطط تجري خلفها الفئران
رأيت من الحيوان ما يعيث في الأرض فسادًا ويسمى بالإنسان
والإنسان الحقيقي يتعثر في طريقه، فله اليوم عين واحدة لا عينان
والجرذان تمتطي جيادًا ويلقبون بالفرسان
رأيت أسوار خوفنا وذلنا تحاصر فلول الشجعان
ومياه خزينا تغرق في بحرنا الربان
ونحن نتخبط فيه وقد غابت عنه أشباح الشطئان
رأيت الكثير والكثير، ومهما ذكرت لك فإنني لا أذكر سوى بعض ما رأيت.
سكت صديقنا فجأة، ومع سكوته انتبه كل منا مرة أخرى إلى نفسه، وكأننا قد كنا في عالم ثم أتى صديقنا ليحملنا معه إلى عالم آخر، وكأنه قد هبط بنا من السماء إلى أرض الواقع ثم تركنا لنختار ما بين العودة إلى السماء مرة أخرى أو البقاء على أرض الواقع، وكأننا قد ارتطمت رؤوسنا جميعًا بسور الواقع الأصم الذي يحيط بنا من كل اتجاه، وكأننا نعيش في دنيا الوهم ونتلذذ بها لنضيع بين أقدام الأحلام المحطمة وتتوزع أجزاؤنا على شواطئ بلاد غريبة عنا لا نعرفها ولا تعرفنا، وكأننا قد عشقنا الخيال وحبسنا أنفسنا فيه وحاصرناه بداخلنا وحاصرنا بداخله فلم يعد قادرًا على الخروج منا ولم نعد قادرين على الخروج منه. أراد كل منا أن يتكلم لينهي حالة الصمت المخيفة التي سادت المكان وخيمت عليه بأجنحتها الوطواطية السوداء، لكن الأحرف كانت تذوب على أطراف ألسنتنا فلا يكتب لها الميلاد ولا الخروج إلى الدنيا وكأن ما قاله صديقنا قد جعلها تكره هذه الدنيا ولا تريد الخروج إليها.
لم يقطع حالة الصمت هذه سوى كلمة قالها صديقنا .... "آسف" .... ثم ما برح أن ترك الجلسة خارجًا إلى الدنيا التي كرهها، فلربما رأى منها جديدًا يزيد كرهه لها.
وشتان بين الحالة التي جاءنا فيها والحالة التي تركنا عليها، حيث كان الاختلاف واضحًا. لكن في الحقيقة، ومن وجهة نظري الخاصة، كان الاختلاف ظاهريًا وليس جوهريًا، فحالتنا النفسية الداخلية واحدة قبل أن يأتي وبعد أن تركنا. وما زادني يقينًا بذلك أنه بعد أن تركنا وبعد لحظات أخرى من الصمت قال صديق آخر لنا من الحاضرين بصوت ضعيف – لكنه كان واضحًا وسط حالة السكون الرتيبة التي سادتنا – وبسخرية قد تكون من نفسه وقد تكون منا وقد تكون من الدنيا كلها ... "يا خيبة قوية!!!" ... فانفجر الجميع بالضحك حتى نزلت دموعنا واحمرت وجوهنا من شدة الضحك وسعل البعض حتى كادت أن تزهق روحه، ولكن أثناء ذلك كان كل فرد منا ينظر إلى الآخر وكأن نظرات كل منا تخترق أعماق الآخرين ليرى الجميع حزنًا مشتركًا بيننا ويسمع صوت داخلي يقول بثقة كئيبة ... "بلى لقد رأيت".
هو: السلام عليكم.
جميعنا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أنا: واكتملت الجلسة أخيرًا، حمدًا لله على سلامتك.
هو: سلمك الله.
(لاحظت بعد ذلك حدوث حالة من الصمت والسكون بيننا فبدأت أدير دفة الحديث مع صديقنا وسط حالة من صمت الجميع.)
أنا: علام التجهم يا فتى؟!
هو: وعلام الضحك؟!!
أنا: لك الحق في سؤالك هذا فلقد فاتك من حديثنا الكثير، ولذا فأنت لم تسمع ما سمعنا ولم تر ما يضحكنا.
هو: وأنتم من الواضح أنه قد فاتكم الكثير من هذه الدنيا فلم تروا ما رأيت منها ولم تعرفوا ما يجعلني دائمًا متجهم.
أنا: وما الذي رأيته أنت من هذه الدنيا ولم نره نحن يا فيلسوف العصر والأوان؟!!!
هو (بعد ابتسامة امتعاض وسخرية): ألم تر ما رأيت من هذه الدنيا؟ ألم تسمع ما سمعت منها؟ ألم تعرف عنها ما عرفت؟ أم أنك تعيش في دنيا أخرى لا أعرفها؟
أنا (في انفعال متصاعد): إنني لا أحب هذا النوع من التفلسف، أخبرني إن كنت قد رأيت شيئًا لم نره!
هو: كما تشاء، سوف أخبرك عما رأيته.
رأيت الأسماك الكبيرة تأكل صغير الأسماك في البحر، رأيت الشرور والأحقاد والضغون تلوث ما نشربه من ماء النهر، رأيت القطة تأكل أبناءها ومبدؤها في الحياة بيدي لا بيد عمرو، رأيت العفة تختبئ داخل الديار ولا يظهر أمام الأعين إلا الفُجر.
أتدري ما رأيت أيضًا.....
رأيت الحقيقة تمشي على قدم عرجاء، رأيت التعري يطعن بخنجر مسموم قلب الحياء، رأيت غيوم الظلم تملأ عنان السماء، رأيت موكب العرس يخترق سرادق العزاء، والملائكة ترتدي على البشر ثياب الحداد السوداء، والناس تتقطع أيديهم من التصفيق وتتسع أفواههم من الضحك وتدمى أعينهم من البكاء، رأيت الفراغ يملأ حياتنا والأهداف تتقطع إلى أشلاء، رأيت الحزن يفتت قلوب الحجارة الصماء، والأشجار جميلة المنظر لكنها لا تثمر وتعوي الرياح داخل فروعها الجوفاء، رأيت الفتنة تسود والنيران تشتعل ولا يزيد لهيبها إلا الماء، رأيت أسنان الضعف تنتشر في أفواه يقيننا الهثماء، رأيت ذئاب البشر ترعى داخل صحراء حياتنا الجرداء، لا يصدهم سوى الأغنام الضعيفة ولا يحول بيننا وبينهم إلا الخواء.
أتعلم ما رأيت أيضًا....
رأيت القطط تجري خلفها الفئران
رأيت من الحيوان ما يعيث في الأرض فسادًا ويسمى بالإنسان
والإنسان الحقيقي يتعثر في طريقه، فله اليوم عين واحدة لا عينان
والجرذان تمتطي جيادًا ويلقبون بالفرسان
رأيت أسوار خوفنا وذلنا تحاصر فلول الشجعان
ومياه خزينا تغرق في بحرنا الربان
ونحن نتخبط فيه وقد غابت عنه أشباح الشطئان
رأيت الكثير والكثير، ومهما ذكرت لك فإنني لا أذكر سوى بعض ما رأيت.
سكت صديقنا فجأة، ومع سكوته انتبه كل منا مرة أخرى إلى نفسه، وكأننا قد كنا في عالم ثم أتى صديقنا ليحملنا معه إلى عالم آخر، وكأنه قد هبط بنا من السماء إلى أرض الواقع ثم تركنا لنختار ما بين العودة إلى السماء مرة أخرى أو البقاء على أرض الواقع، وكأننا قد ارتطمت رؤوسنا جميعًا بسور الواقع الأصم الذي يحيط بنا من كل اتجاه، وكأننا نعيش في دنيا الوهم ونتلذذ بها لنضيع بين أقدام الأحلام المحطمة وتتوزع أجزاؤنا على شواطئ بلاد غريبة عنا لا نعرفها ولا تعرفنا، وكأننا قد عشقنا الخيال وحبسنا أنفسنا فيه وحاصرناه بداخلنا وحاصرنا بداخله فلم يعد قادرًا على الخروج منا ولم نعد قادرين على الخروج منه. أراد كل منا أن يتكلم لينهي حالة الصمت المخيفة التي سادت المكان وخيمت عليه بأجنحتها الوطواطية السوداء، لكن الأحرف كانت تذوب على أطراف ألسنتنا فلا يكتب لها الميلاد ولا الخروج إلى الدنيا وكأن ما قاله صديقنا قد جعلها تكره هذه الدنيا ولا تريد الخروج إليها.
لم يقطع حالة الصمت هذه سوى كلمة قالها صديقنا .... "آسف" .... ثم ما برح أن ترك الجلسة خارجًا إلى الدنيا التي كرهها، فلربما رأى منها جديدًا يزيد كرهه لها.
وشتان بين الحالة التي جاءنا فيها والحالة التي تركنا عليها، حيث كان الاختلاف واضحًا. لكن في الحقيقة، ومن وجهة نظري الخاصة، كان الاختلاف ظاهريًا وليس جوهريًا، فحالتنا النفسية الداخلية واحدة قبل أن يأتي وبعد أن تركنا. وما زادني يقينًا بذلك أنه بعد أن تركنا وبعد لحظات أخرى من الصمت قال صديق آخر لنا من الحاضرين بصوت ضعيف – لكنه كان واضحًا وسط حالة السكون الرتيبة التي سادتنا – وبسخرية قد تكون من نفسه وقد تكون منا وقد تكون من الدنيا كلها ... "يا خيبة قوية!!!" ... فانفجر الجميع بالضحك حتى نزلت دموعنا واحمرت وجوهنا من شدة الضحك وسعل البعض حتى كادت أن تزهق روحه، ولكن أثناء ذلك كان كل فرد منا ينظر إلى الآخر وكأن نظرات كل منا تخترق أعماق الآخرين ليرى الجميع حزنًا مشتركًا بيننا ويسمع صوت داخلي يقول بثقة كئيبة ... "بلى لقد رأيت".
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفمبروك المدونة
ردحذف:)))