الجمعة، 15 يناير 2010

أمل


لم يكن أحد ليتوقع أو يتخيل المشهد، أو يتصور أن توجد مثل هذه المنطقة في قلب العاصمة المتطورة المتمدنة. كان المشهد بالفعل غريبًا، أرض منخفضة بعض الشيء لا توجد بها عمارات أو أبنية، لا يوجد بها سوى أكواخ خشبية متلاصقة لا ترتفع لأكثر من بضعة أمتار ومنها ما هو تحت مستوى الأرض قمته عند مستوى سطح الأرض وكأنه تابوت خشبي كبير لا يحوي سوى أجساد لا توجد بها روح، وبقايا حياة. وبين تلك الأكواخ الخشبية لا يوجد سوى مساحات صغيرة جدًا تسمح بالكاد بمرور شخص أو شخصين على الأكثر في ذات الوقت، وتمتلئ تلك المساحات التي تمثل الطرقات في هذه المنطقة بمخلفات بشرية تجعل من تلك الطرقات ملاذًا لأسراب الذباب والبعوض والحشرات الحائمة، بالإضافة إلى رائحة نتنة غير آدمية تزكم الأنوف.

أما ما يجعل المشهد أشد عجبًا فهو الأبنية المحيطة بهذه المنطقة، وهي أبنية متطورة شديدة الارتفاع تسر الناظرين، أبنية تمتلئ شرفاتها بنباتات الزينة والزهور، وتفوح منها روائح اللحوم والأسماك المشوية وغيرها من روائح الأطعمة الشهية. وعلى نوافذها من الخارج تظهر الأجسام الخارجية لأجهزة التكييف التي تخفف من قيظ وحرارة الصيف وتغمر ليالي الشتاء بجو دافئ يبعث على الراحة والاسترخاء بعيدًا عن برودة الجو بالخارج.

عادة ما يثير التناقض العجب، وكان هذا هو موطن العجب في هذا المشهد، فهذه منطقة بائسة مذرية الأحوال محاطة من كل جانب بعمارات فارهة شاهقة الارتفاع، وكأنها نقطة سوداء في صفحة بيضاء، أو جزيرة بركانية في محيط واسع من المياه الباردة المنعشة، ولهذا السبب أطلق على هذه المنطقة اسم "جزيرة الكرب".

عندما تخطو بقدميك داخل جزيرة الكرب تشعر للوهلة الأولى أن وجود بشر يعيشون في تلك المنطقة هو أمر من وحي الخيال، لكن هذا الشعور لا يلبث أن يتلاشى ويحل محله الذهول ثم الأسى عندما تمشي في ممراتها وترى أهلها، ترى وجوه ميتة تمشي على أقدام، وجوه تنعكس عليها ملامح اليأس والبؤس والأسى، ويكسوها شحوب واصفرار وأحيانًا سواد لا تفهم أسبابه إلا عندما تمشي داخل الجزيرة وترى أحوالها، لكن هذه الحالة لم تكن على الشكل نفسه من سنة واحدة، فمن سنة واحدة كانت تلك الوجوه الفقيرة يحدوها الأمل في غد أفضل وحياة أرقى، فما هي القصة إذًا وما هي الحكاية.

كانت الحياة في جزيرة الكرب على هيأتها الحالية نفسها من هم وغم وبؤس وشقاء من عقدين ونصف العقد تقريبًا، مما لم يدع أي مجال لأهلها للتفكير في تعليم أبنائهم إلى أن وُلدت "أمل" وكانت "أمل" طفلة غير كل الأطفال وفتاة غير كل الفتيات. فقد كانت بداخلها طاقة وحماس شديد وقوة وصلابة ليس لهما مثيل في الجزيرة وأمل في الغد ورغبة في نفع نفسها وأهلها وأهل الجزيرة ككل.

كانت أمل تحلم منذ صغرها أن تصبح طبيبة كبيرة ذات شأن كبير، وعملت من سنوات حياتها المبكرة على تحقيق حلمها، فعندما أراد والدها أن يحبط أحلامها ويبعدها عن الدراسة، مثلها مثل باقي الأطفال في الجزيرة، رفضت واستعطفته بالدموع والتوسلات ووعدته بأنها لن تكلفه أي شيء وأنها سوف تعمل وتنفق على نفسها، وهذا ما حدث بالفعل، فقد كافحت الطفلة منذ نعومة أظافرها إلى أن وصلت إلى المرحلة الثانوية، ثم حصلت على مجموع كبير أدخلها كلية الطب التي طالما حلمت بها، وهنا تغير الوضع، فلم يعد حلم أمل حلمًا يخصها وحدها، بل أصبح حلمًا يخص سكان الجزيرة وأهلها جميعهم، وتحولت أمل في أعين أهل الجزيرة إلى رمز، رمز لأحلامهم، رمز لطموحاتهم، رمز لآمالهم المدفونة بداخلهم من سنين، وأصبح الجميع يشجعونها ويطلبون منها الاستمرار وتشريفهم وتحقيق أحلامهم، وأصبحت من أول يوم لها بكلية الطب "الدكتورة أمل" وأصبحت بالنسبة لجميع أهلها وجيرانها الصلة الوحيدة بينهم وبين العالم الخارجي، بين أرض الموتى وأرض الأحياء، بين الأرض والسماء، وأصبح وجودها يصبرهم على ما يقاسون من مرارة العيش، فلا يجدون المأكل ويصبرون لأن لديهم أمل، ولا يجدون الملبس ويصبرون لأن لديهم أمل، ويعيشون بين الحشرات والقوارض ولا يجدون أدنى مشكلة .. فلديهم أمل، وتلدغهم العقارب والثعابين التي ترعى في أكواخهم ويقاومون السم والألم لأن لديهم أمل، تغمر مياه الأمطار في الشتاء مراقدهم ولا يكترثون لأن لديهم أمل، ولا يجدون مكانًا لقضاء حاجتهم في غياب شبكات الصرف الصحي عنهم ولا يشعرون بأدنى ضيق لأن لديهم أمل، لقد أصبحوا أخيرًا يعيشون على أمل، لقد أصبحوا أخيرًا يعيشون بأمل.

أما أمل فقد كانت تشعر بمسئولية كبيرة تجاه أهل جزيرتها وتجاه أهلها ونفسها وصممت منذ البداية على التفوق وعلى أن تصبح أستاذة جامعية كبيرة ذات اسم يتشرف به أهل الجزيرة جميعهم، وبالتالي تحول هذا الحلم أيضًا إلى حلم خاص بأهل الجزيرة. سعت أمل من البداية إلى تحقيق هذا الحلم وبالفعل تفوقت وكانت طوال سنوات دراستها الأولى على دفعتها، وعند ظهور نتيجة السنة الأخيرة للدراسة انطلقت الزغاريد داخل جزيرة الكرب ووزع الشربات ودقت الطبول وتعالت الأغاني والأهازيج، فقد جاءت أمل في المركز الأول أيضًا على دفعتها ليتحقق حلم الجميع – من وجهة نظرهم – بأن تصبح الدكتورة أمل استاذة جامعية وهو ما اعتقده الجميع.

وكان هذا الاعتقاد أمرًا طبيعيًا حيث إنه من الطبيعي أن تصبح معيدة في كليتها لتبدأ رحلة جديدة تصل من خلالها إلى لقب "الأستاذة" الذي تطمح إليه، إلا أن العدد المطلوب – لسوء حظها – في هذه السنة من الطلاب الأوائل خمسة طلاب فقط، ولسوء الحظ فإن المراكز التالية لها قد احتلها طلاب من أبناء أساتذة الجامعات وكبار المسئولين، وقامت الوساطة بدورها لتجد أمل نفسها خارج القائمة، خارج نطاق الحلم.
لم تكن أمل هي الشخص الذي يُكسر بهذه السهولة، فقد صممت بصلابتها وقوتها المعهودة على الحصول على حقها، ونحن في دولة لها قوانين وقواعد، هكذا حدثت نفسها، وبالتالي فإنها بعد شكوى مقدمة لرئيس الجامعة أو غيره من المسئولين سوف تحصل على حقها. وفعلاً قدمت شكوى ... شكوتين ... عشرة ... عشرات الشكاوى في جميع الاتجاهات، واستمرت في محاولاتها أكثر من سنة كاملة دون أن تحصل على أي شيء أو أي أمل في الحصول على حقها. وفي النهاية ذهبت بنفسها في محاولة أخيرة لمقابلة وزير التعليم العالي بنفسه، إلا أنها وبعد أن وصلت إلى مكتبه وجدت نفسها محاطة بنظرات الازدراء والاحتقار من قبل العاملين في مكتب السيد الوزير وانتهى الأمر بطردها، فمن هي لتقابل وزيرًا، إنها مهما بلغت قدراتها العلمية ليست سوى فرد ينتمي إلى "جزيرة الكرب".

أحست أمل بإهانة كبيرة لها وشعرت بوضعها الحقيقي داخل دولتها، ووضع أمثالها الحقيقي، فمن هي ومن أهلها ومن عشيرتها لتصل إلى القمة، إلى قمة أي شيء، إن أمثالها خلقوا للقاع، للقاع فقط. شعرت أمل بانهيار كل ما قامت به من مجهودات خلال أعوام دراستها منذ الطفولة وحتى انتهاء المرحلة الجامعية، شعرت بالضياع، للمرة الأولى في حياتها تشعر بهذا الشعور فمهما كانت درجة البؤس والشقاء التي عاشتها وعايشتها منذ طفولتها إلا أن وقود الأمل بداخلها كان يحركها ويحرك جميع من يحتك بها ويتعامل معها، لقد كانت هي بما لديها من طاقة الأمل الذي عاش عليه أهل الجزيرة لفترة طويلة، كانت دائمًا لا تنظر أسفل أقدامها، بل تنظر أمامها في رغبة حقيقية للتقدم، وربما كانت تلك هي مشكلتها فعندما لم تنظر أسفل أقدامها لم تدرك واقعها، وبالتالي لم تصل إلى المستقبل الذي تحلم به، شعرت أمل بالظلم، شعور مؤلم كثيرًا ما شعرت به منذ طفولتها، إلا أن حلمها بغد أفضل كان يهون عليها احساسها بالظلم، أما الآن فهي أمام نهاية، نهاية لفترة جميلة عاشتها في خيالها فقط، وعاشها معها أهل الجزيرة، نهاية ظالمة مخزية قضت على ما تبقى من نور داخل أجسام مظلمة مظلومة، نهاية حقيقية لأمل جميل.
مشت أمل كثيرًا في رحلة عودتها من مكتب السيد الوزير إلى "جزيرة الكرب" إلى أن بلغت مشارف الحدود الشمالية للجزيرة، تلك الحدود التي ترسمها قضبان القطار، ذلك القطار الذي كثيرًا ما ظلت أمل ترقبه من بعيد وتتمنى أن تستقله في يوم من الأيام، كانت أمل وهي طفلة تتأمل كثيرًا تلك القضبان والقطار عندما يمر عليها وتشعر أن هذا القطار سوف يحملها في يوم من الأيام إلى دنيا أخرى غير تلك التي تعيشها ويأخذها من أرض الكرب إلى أرض الأحلام الوردية الجميلة، وظلت هكذا كثيرًا، تراقبه وتحلم، إلى أن أصبح هذا القطار رمزًا لأحلامها. كانت أمل في رحلة عودتها إلى أرض الواقع، إلى جزيرة الكرب، عندما سمعت صوت الأجراس تنبئ بقدوم القطار، فانتظرت مع المنتظرين من أهل الجزيرة للعبور إلى الجزيرة، ومع تأملها لشريط القطار مر بخاطرها شريط السنة الماضية المؤلمة التي عاشتها وما تعرضت له من ظلم منذ استبعادها من قبل الجامعة إلى اللحظة التي تعايشها ففكرت وأخذت القرار في لحظة.

جرت أمل بشكل جنوني مفاجئ أمام أعين أهل الجزيرة المراقبة تجاه قضبان القطار القادم وافترشتها وكأنها ترحب بعجلات القطار الآتية لتحطيم عظامها وهرس لحمها، وفي لحظات مر القطار بالفعل ليصبح رمز الحلم رمزًا لنهاية الحلم، وتشهد قضبان القطار مولد الحلم ونهايته أمام أعين أهل الجزيرة.

وبتلك النهاية انطفأت الشمعة الأخيرة في ظلمات الجزيرة الساجية، وأفل آخر نجم في سماء الأحلام ليتركها سوداء قاتمة اللون لا يرى فيها حاضر أو مستقبل. ومن هنا يمكن فهم تلك النظرات الحزينة التي تملأ العيون والملامح الكئيبة التي تكسو الوجوه في جزيرة الكرب، تلك النظرات والملامح التي اختفت لفترة، فترة الأمل، ثم عادت مرة أخرى لتستقر هنا في انتظار أمل جديد، أو نهاية شبيهة بنهاية "أمل" أصبح الآن قديمًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق