
في هذه اللحظات تذكرها، وتذكر الموقف، كانت تقف بين يديه في شرفة منزلهما، كانت تستعطفه بدموعها وتتوسل إليه بتنهداتها وبكائها، كانت تستحلفه بأعز ما يملكون في هذه الدنيا، بأطفال ثلاث، ولد وبنتان، هم كل ما يملكون في هذه الدنيا وأغلى ما يملكون، تحاول أن تثنيه عن قرار اتخذه بعد تفكير طويل، واعتراض منها وتصميم منه، محاولات منها ومراوغات منه، لقد قرر بعد دراسة أحسها منطقية وموضوعية أن يسافر، قرر أن يعمل بالخارج ويترك عمله هنا حتى يوفر لزوجته العزيزة وأطفاله مستوى متميز يعيشونه ويشبون فيه، قرر أخيرًا وعلى كره منه واعتراض من زوجته أن يلقي بنفسه في أحضان الغربة الباردة.
وقفت يومها أمامه والدموع تملأ عينيها
- بلاش يا "طاهر" ... بلاش
- مينفعش يا حنين.
- يا حبيبي وجودك وسطنا بالدنيا واللي فيها، احنا مش عايزين من الدنيا دي غير لمتنا ووجودك وسطنا.
- أنا عارف، بس والله أنا بعمل كده علشانكوا، نفسي الأولاد ميحتاجوش حاجة، نفسي أجيبلهم الدنيا باللي فيها.
- بس انت شغال هنا شغل محترم واحنا مستورين والحمد لله.
- الحمد لله على كل شيء، لكن أنا عايز اللي أكتر من الستر، أنا عايز ولادي ميطلبوش حاجة غير ويلاقوها.
- بس الولاد محتاجينك معاهم، بكرة يكبروا ووجودك وسطهم مهم ... مهم أوي يا طاهر.
- يا حبيبتي انتي ليه بتتكلمي كده وأكني مسافر ومش راجع، أنا إن شاء الله سنتين تلاتة بالكتير أأمن مستقبلنا ومستقبل الولاد وأرجع على طول.
- سنتين تلاتة؟!!! يا طاهر جوه دوامة الغربة مفيش معنى للسنين، السنين فيها زيها زي الأيام والساعات والدقايق والثواني.
- بلاش تشاؤم بس، وبعدين أنا خلاص حجزت والطيارة بكرة إن شاء الله، ومينفعش أرجع في كلامي.
لم تحتمل تلك الكلمات، وكأنها كانت تستمع إلى خبر رحيله للمرة الأولى، وانسابت دموعها وجهشت بالبكاء، فضمها بين ذراعيه وأخذ يطمئنها ويحلم معها بصوت عال، يحلم بالسيارة والمنزل الواسع المكون من طابقين، والذي طالما تمنته هي وحلمت به، وبأبنائهم في أرقى المدارس و... و... و... ، أحلام كثيرة أخذ يسردها ويسرح معها، واستمر كذلك حتى توقفت عن البكاء، وبعد صمتها لفترة قالت له بصوت مرتعش
- أنا خايفة أوي يا طاهر ... أوي
- متخافيش يا حبيبتي، هما سنتين تلاتة زي ما قلتلك وكل أحلامنا هتتحقق وهنرجع ونتلم تاني مع بعض، أنا بوعدك.
تذكر كل ذلك وهو يقف في نافذة منزله في "الغربة" وهو يتطلع إلى السماء وقد غطاها الليل بظلمته، وظهر القمر ومن حوله النجوم المنيرة في مشهد أثار في قلبه الحنين إلى الوطن ... بلده وبيته.
تذكر أول زيارة له إلى بلده بعد سنتين قضاهما في الغربة، تذكر لحظة مقابلة زوجته وأبنائه له في المطار وكانت أعمارهم وقتها تتراوح ما بين ثلاثة إلى ستة أعوام، تذكر مشهد آلمه وقتها كثيرًا، تذكر كيف وقف أطفاله بعيدين عنه وعندما نادى عليهم "تعالوا يا حبايبي"، وكيف اختبأ كل منهم خلف أمه ورفض إلقاء نفسه بين ذراعيه المفتوحين ... "انتوا مش عارفيني، أنا بابا" لكن هيهات أن يتقدم أحدهم خطوة واحدة تجاهه، إلى أن تدخلت زوجته "معلش كلها يومين ويتعودوا عليك".
تذكر آخر أيام تلك الإجازة، عندما وقف هو وزوجته في الموقف ذاته، في شرفة المنزل:
- مش كفاية كده يا طاهر.. مش كفاية غربة وترجع بقى.
- مينفعش .. أنا دلوقت وصلت لمكانة كويسة أوي وقربت أوصل لكل الأحلام اللي رسمتها، ولو رجعت هخسر كل اللي عملته وكل المجهود اللي بذلته.
- يا طاهر الولاد محتاجينلك.
- يا حبيبتي مانتي اللي رافضة تسافري تعيشي معايا انتي والأولاد
- أنا مسبش بلدي يا طاهر ومسبش ولادي يتربوا بره بلدهم .. أنا مستحملش الغربة ولو يوم واحد لا أنا ولا الولاد .. مش كفاية انت متغرب
- خلاص يبقى نستحمل وإن شاء الله قريب هنزل وأستقر معاكوا.
- (قالت بنبرة يشوبها الكثير من الشك) إن شاء الله.
تذكر جميع زياراته إلى بلده ومفاجأته كل مرة بالأولاد، إنهم يكبرون بسرعة، أم هي الأيام التي تمر بسرعة؟ لم يكن يدري وقتها الإجابة، وكل ما كان يشغل باله هو المستقبل وكيف ستكون الأيام مزدهرة عندما يعود إلى الوطن.
مرت السنون أمام عينيه الآن، ودارت به الأيام ثم عادت به إلى لحظته الراهنة، أخذ يفكر في حاله الآن، بعد مرور أكثر من عشرة أعوام، وأخذ يسأل نفسه، كيف احتمل ذلك؟ كيف احتمل أن يعيش بعيدًا عن بيته كل تلك السنين؟ كيف أضاع أحلى الأعوام من عمر أطفاله ولم يكن بجوارهم يرقبهم وهم يكبرون وينضجون يومًا بعد يوم كالغرس في الأرض، يعيش معهم ليرى ويراقب ويستمتع بكل لحظة يعيشونها أمامه؟ كيف أضاع أحلى الأعوام من عمره وعمر زوجته؟ كيف أضاع أحلى أيام الشباب بعيدًا عنها تفصلهم أميال من صحاري ومزارع وبحار وأنهار وجبال وسهول ووديان؟ كيف ترك أسرته تبتعد عن أحضانه كل تلك الفترة؟ وما المقابل؟ هل يكفي أمام ذلك آلاف من الجنيهات يجمعها؟ وهل أطفاله كانوا ولم يزالوا بحاجة إليه أكثر أم إلى أمواله التي يجمعها؟ سأل نفسه كثيرًا إلى أن شعر بالندم ينهش أعضاءه ويمزق كيانه، وشعر بالحنين الشديد إلى أسرته. شعر بروحه تخرج من جسده، لكنه ليس الموت، إنه الشوق، إنه الحنين، وشعر بروحه تعبر الأميال، تعبر الصحاري والمزارع والبحار والأنهار والجبال والسهول والوديان، تجوب البلاد إلى أن تصل إلى الهدف والمقصد، إلى منزل الزوجية، إلى السكن، ولا تطرق الباب، لا تريد أن يشعر بها أحد، فتتسلل من النافذة، تدخل وتقترب من زوجته، تشعر بدفء أنفاسها وترتوي منها كيفما تشاء، تدور في الهواء وتنسل إلى حجرات الأبناء، تحتضنهم وتقبلهم، تسامرهم وتضحك معهم، تطلب منهم العفو عن تلك الأيام الضائعة والسنوات المنقضية. ثم تتركهم ليسكنوا ويخلدوا إلى النوم، تغطيهم وتقبل جبينهم وتتمنى لهم أحلامًا سعيدة.
لقد أخطأ في حساباته وأخطأ في قراره، قارن بين أمور مادية وأمور معنوية، بين مال ورعاية، بين ثروة واهتمام، بين جاه ومتابعة، بين آلاف وحب. لقد ظن أنه يصنع مستقبله ومستقبل أبنائه في وقت كان مستقبله يتآكل، تتناقص منه الأيام والشهور والسنين، تمضي بلا عودة، وتنقضي فتعطي القليل وتأخذ الكثير، أضاع من عمره وعمر زوجته وأطفاله أكثر من عشر سنوات من أجمل وأحلى سنين العمر من أجل أن يستمر في نجاحاته النظرية بالخارج وإخفاقاته الواقعية تجاه أسرته، أضاعها وهو يطارد هدفًا متحركًا كلما شعر بالاقتراب منه ابتعد عنه أكثر وأكثر، لقد أخطأ في حق نفسه وحق أسرته، لكن الآن ... ما العمل ... هل يترك كل ذلك؟ هل يصفي أعماله ويعود؟ سؤال صعب لم يجد له إجابة سريعة.
سأل طاهر نفسه هذا السؤال مرات ومرات دون أن يجد الإجابة، وكان أثناء ذلك كله لم يزل في النافذة يطالع السماء والقمر والنجوم ويدعو الله أن يهديه إلى الصواب وإلى الرأي السديد. وأثناء تجواله بعينيه في السماء تبدلت المشاهد فجأة أمامه، فإذا بالقمر يعكس وجه حبيبته وزوجته ليضيء له روحه وقلبه، وإذا بالنجوم أبنائه يهدونه إلى الطريق ... وهنا اتخذ القرار
- إني عائد ... إني عائد
عالية جدا جدا,فكرتني بمقولة ان الانسان في ايده 3 كور ازاز,كورة العيلة و كورة الصحة و كورة الوقت و كورة مطاط هي الشغل,لو وقع منك أي من كور الازاز,راحوا,أما كورة الشغل لو وقعت,بتتردلك تاني...للأسف أخينا ده كسر كور الازاز و ما باقي غير كورة المطاط الصماء
ردحذف