
استيقظ أحمد من نومه مبكرًا رغم أن اليوم كان يوم إجازته، لكنه لم يقم من مرقده. استمر على وضعه طويلاً، نائمًا على ظهره ناظرًا إلى سقف حجرته لا يحرك جسده لكنه يقلب بصره من آن لآخر من سقف الحجرة إلى باقي أركانها ثم يعود إلى وضعه الأول، مركزًا بصره إلى سقف الحجرة. لم يكن أحمد يدرك وقتها كم ساعة نامها، بل لم يكن يدرك حتى إن كان قد نام أم لا، لكن هذا لم يكن ليشغله، فقد استغرق في تفكير عميق شغله عن الاهتمام بأي أمر آخر، تفكير في الحاضر، ورحيل إلى ذكريات الماضي وقت أن كان صغيرًا يلهو مع رفاقه الصغار في أحد شوارع حي الدقي بالقاهرة قبل أن يرحل هو وأسرته إلى حي المهندسين. تذكر أحمد لهوه ولعبه مع هؤلاء الأطفال وأخذ يتذكر بعض رموز ذلك الشارع من أشخاص لا يمكن نسيانهم مهما مر الزمن.
ومن بين تلك الرموز وهؤلاء الأشخاص توقف أحمد عند شخص واحد بالذات، سعيد، أو "سعيد بتنجانة" كما كان يطلق عليه هو ورفاقه الصغار وقتها وجميع أهالي الحي. ولد أحمد وكبر فوجد هذا الرجل أمامه، رجل قد فقد عقله، يسير في شارعهم والشوارع المجاورة له ببطء وكأنه يحمل جبلين فوق كتفيه يمنعاه من الإسراع، وكان هذا الرجل طويل القامة نحيف الجسد يرتدي جلبابًا يتضح أنه كان في يوم من الأيام أبيض اللون لكنه الآن مصفر متسخ مقطوع من عدة أماكن ومرقع في أماكن أخرى منه. وكان شعره بالكامل أبيض، كما كان يتضح عليه أنه لم يجاوز منتصف العقد السادس من عمره، عيناه شديدة الاحمرار وكأنه لا ينام ووجهه أسمر ترتسم عليه علامات شدة الإرهاق والتعب.
بدأ أحمد في تذكر كافة التفاصيل عن هذا الرجل وما كان يفعله هو ورفاقه معه، وبدأ يسمع صوت داخلي هو نفسه صوته يقص عليه ما كان يحدث .......
كان هذا الرجل يمر بي وبرفاقي ونحن نلعب في الشارع وعندما كنا نراه نتوقف عن اللعب ويغمز كل منا للآخر ثم يتناول كل واحد منا بعض الحجارة من الأرض ويطلق صيحة مدوية كأنها صيحة الحرب، ثم يقذف به سعيد، وتتوالى القذائف عليه فلا يسرع في خطاه ولا يقوم بأي رد فعل إلا أن يضع كلتا يديه خلف رأسه لتفادي الحجارة ويحرك رجليه ببطء شديد كي لا تهشم تلك الحجارة عظامه ويظل ينظر إلى الأرض دون أن يرفع رأسه. وكان من العجيب في هذا الرجل أنه لم يكن يتألم إثر ارتطام الحجارة بجسده، فعندما كان يصيبه أحدنا بحجر في قدمه أو ظهره لم يكن يصدر أي صوت، بل يحرك جسده إلى الأمام من أثر ارتطام الحجر به رغم أننا كنا نسمع للحجر صوت "طرقعة" إثر اصطدامه بجسده. وكأن هذا الرجل كان يحمل فوق رأسه من الألم ما يجعل أي ألم آخر عليه هينًا.
وأثناء ذلك لم نكن نلتفت لتعنيف بعض أهل الشارع لنا وحثنا على التوقف عن ذلك، وكنا نستمر في مطاردة سعيد حتى نراه يبتعد عن الشارع بأكمله. إلا أنه في إحدى المرات، وأثناء مطاردتنا له توقف فجأة ونظر أمامه وكأنه يراقب أمر خطير يحدث، ثم أخذ يشير بيديه وكأنه يحث أحدًا على الرجوع إلى الخلف وسمعناه يقول "ارجعوا يا ولاد ... ارجعوا يا ولاد ..." فحسبنا أنه يخاطبنا، ولكننا تعجبنا لأنه لم يكن ينظر إلينا، ثم أخذ يردد نفس الجملة بصوت مرتفع وبسرعة أكبر، وفجأة صرخ صرخة هائلة "آآآآآآآآآآآآآآآآآآه" ثم أخذ يبكي بشدة ويقول "ليه كده يا ولاد؟!! مش كنتوا تستنوا". واستمر في البكاء ونحن نراقب كل ذلك، إلا أنه صمت فجأة وتحول بكاؤه إلى ضحك، ضحك هستيري ارتفع إلى أن شعرنا أنه يرج أركان شارعنا بما فيه، ويخترق قلوبنا فيزرع فيها الهلع والفزع. وتملكنا الخوف، فرمى كل منا الحجارة من يديه وعدنا مسرعين كلُّ إلى بيته وعلى وجهه ملامح الخوف والفزع.
ومن وقتها توقفنا عن مطاردته، وكان عندما يمر بنا يميل كل منا إلى ركن من أركان الشارع ونظل نراقبه من بعيد وهو يسير بالشكل المعتاد ويردد نفس الجملة "ليه كده يا ولاد ... مش كنتوا تستنوا" وذلك هو كل ما تذكره أحمد عن سعيد بتنجانة.
لكن ما الذي جعل أحمد يعود بذاكرته إلى الوراء ليتوقف عند هذا الرجل بالذات؟ فمنذ أن ترك أحمد شارعه القديم لم يعد يفكر في تلك الأيام أو ذلك الشارع أو من فيه على الإطلاق، خاصة أنه تركه وهو صغير ولم يكن يذهب إلى هناك بعد أن باعت أسرته الشقة القديمة ولم يعد يربطهم بهذا الحي أي شيء وانقطعت مع الوقت أية صلة له ولأسرته بأهل هذا الشارع.
يعمل أحمد في أحد معارض الموبيليات الكبيرة بالقاهرة كمحاسب، وصاحب هذا المعرض هو رجل كبير السن دمس الخلق اسمه "الحاج شعبان"، وكان يحب أحمد حبًا شديدًا ويعتبره بمثابة ابن له. وفي اليوم السابق لهذا اليوم تلقى أحمد دعوة من الحاج شعبان لزيارته في المنزل، وبعد ذهابه وتناول العشاء مع الحاج شعبان وأسرته دعاه الحاج لتناول الشاي في الصالون ثم أتى بألبوم صور قديم وقال له أنه سوف يطلعه اليوم على بعض ذكرياته الجميلة ويعرفه على أناس كان لهم فضل كبير عليه في بداية حياته العملية.
بدأ الحاج شعبان في عرض الصور وسرد الذكريات، ومن بين الصور توقف أحمد عند صورة أذهلته وأدهشته. لقد رأى صورة للحاج شعبان مع رجل يشبه كثيرًا سعيد بتنجانة!!! لقد كانت ملامح ذلك الرجل محفورة في ذاكرة أحمد ولم تكن الأيام لتمحوها، ولكنه أراد أن يتأكد من صحة اعتقاده فسأل الحاج شعبان:
أحمد: مين الراجل اللي معاك في الصورة ده يا حاج؟
الحاج: آه ده المعلم سعيد النجار، واحد من أصحاب الفضل عليا في حياتي
أحمد: المعلم سعيد النجار!!! مين المعلم سعيد ده يا حاج؟
الحاج: ده كان تاجر أخشاب كبير بدأ حياته من الصفر وكافح وناضل لغاية ما بقى واحد من أكبر تجار الخشب والموبيليا وهو في سن صغير. الراجل ده ياما وقف معايا وكان راجل أصيل ورغم إنه بعد ما ربنا فتح عليه واغتنى عزل من المكان اللي كان ساكن فيه وسكن في فيلا في الزمالك إلا إنه كان قمة في التواضع وأسمع إنه ياما عمل خير مع ولاد حتته وخدمهم ياما وعمره ما نسيهم أبدًا لغاية ما حصل اللي حصل.
أحمد: وهو إيه اللي حصل؟
الحاج: اللي حصل كان صعب أوي يابني على الراجل المسكين ده. المعلم سعيد النجار اتجوز في سن صغير من ست فاضلة شافت معاه أيام صعبة كتير لحد ما ربنا فتحله أبواب الرزق وتعبت معاه كتير وكان بيحبها أوي، ورغم إنها كانت مبتخلفش إلا إنه كان أصيل زيها ومسبهاش وفضل يلف معاها على الدكاترة بره وجوه ويعالجها لحد ما ربنا كرمهم بعد أكتر من 10 سنين بتوأم ولد وبنت، لكن للأسف أمهم تعبت جدًا بعد الولادة وقعدت في المستشفى أسبوعين ماتت بعدهم.
أحمد: اممممممممممم
الحاج: الراجل يا عيني تعب جدًا لكن اللي صبره هو ولاده، وكان شايف فيهم أمهم اللي ماتت، حلمها اللي اتحقق بعد طول انتظار وملحقتش تفرح بيه، وفضل مراعيهم ومضلل عليهم برموش عنيه لحد ما كبروا ودخلوا المدرسة ... يااااااااااه ... ده ياما حكالي عنهم وعن أمهم ... ياللا الله يرحمهم بقى
أحمد: يرحمهم!!!! هما مين دول؟
الحاج: الست وولادها يا عيني.
واستمر الحاج شعبان في حديثه مع أحمد ليقص عليه مأساة هذا الرجل. ففي أحد الأيام كان المعلم سعيد مستقلاً لسيارته هو وأولاده عائدًا بهم من مدرستهم، وكان عمرهما آنذاك سبعة أعوام، وكان هذا اليوم هو يوم ميلادهم، وتذكر المعلم سعيد وهو على الطريق في أحد الشوارع الرئيسية أحد متطلبات حفلة عيد الميلاد التي سوف يقيمها لهما كعادته كل سنة، فطلب من ابنه وابنته انتظاره في السيارة وعدم التحرك لحين انتهائه من شراء تلك المتطلبات، ولكنه لم يفطن إلى أن صغر سن هذين الطفلين قد يمنعهما من الاستجابة لذلك الطلب، وأنهما إذا ما شعروا بالوحشة أو الملل من الانتظار فمن الوارد أن يخرجوا من السيارة لاستعجال والدهم ... وهذا ما حدث بالفعل.
فبعد أن تركهم والدهم وعبر الشارع إلى الناحية الأخرى واشترى ما يلزمه ويلزم أطفاله وخرج من المتجر فوجئ بمشهد أوقف سريان الدم في عروقه ورفع درجة حرارته فجأة إلى أضعاف الدرجة الطبيعية وزاد من سرعة ضربات قلبه لتصل إلى مئات الضربات في الدقيقة الواحدة، فقد وجد ابنه وابنته قد خرجا من السيارة ووقفا على الرصيف في انتظاره. وبمجرد أن رأوه خارجًا من المتجر اندفعوا إليه مهللين فرحين غير مدركين للخطر الداهم الذي ينتظرهم، تلك السيارات المميتة التي قد تدهسهم في أية لحظة ... وقبل أن يتدارك سعيد الموقف كان الأمر قد انتهى وكان ما كان.
توقف الحاج شعبان عن الحديث وصمت بعد أن ظهرت على ملامح وجهه علامات الأسى والحزن، إلا أن أحمد قاطعه مستفسرًا عما حدث بعد ذلك، فقال له أن الرجل صُدم صدمة قاتلة رقد على إثرها أيام طوال في المشفى، وبعد ذلك خرج منها في حالة سيئة. وكان لا يتحدث مع أحد ولا ينظر إلى أحد. ثم نُقل بعد ذلك إلى إحدى مستشفيات الأمراض العقلية للعلاج، وأنه قِيل له أن المعلم سعيد قد هرب منها بعد أيام قليلة ولم يظهر بعدها مرة أخرى. وقال له أنه كان خارج البلاد وقتها وأن كل ما قصه عليه هي روايات سمعها من بعض التجار الذين كان لهم تعامل مع المعلم سعيد وأنه لا يعرف عنه أكثر من ذلك.
جلس أحمد مع الحاج شعبان فترة وجيزة وهو شارد الذهن لا يتكلم إلا ليرد على الحاج، ينظر إلى الحاج ولا يراه، وكأنه ينظر إلى لا شيء، ولا يمد يده إلى شراب أو حلوى مما قُدم إليه، إلى أن شعر أنه لن يمكنه الاستمرار كذلك وأنه يريد أن ينفرد بنفسه، فاستأذن الحاج وعاد إلى بيته. وبمجرد أن عاد إلى بيته لم يأكل ولم يشرب، بل دخل إلى حجرته وبدل ثيابه ودخل في مرقده وظل في حالة بين اليقظة والنوم حتى الصباح.
أفاق أحمد من حالته تلك على قرار أخذه وصمم عليه. لقد قرر أن يذهب إلى الشارع القديم، حيث كان يسكن، وعلى الرغم من انقطاعه عن زيارة الشارع منذ أن كان صغيرًا إلا أن اسمه والطريق إليه كان محفورًا في ذاكرته. وبعد أن بدل ثيابه ونزل من منزله دون حتى أن يتناول إفطاره لم يجد أية صعوبة في الوصول إلى هناك. وعندما دخل شارعه القديم لم يكن ليتعرف على أي شيء مما عهده فيه، فالشارع اختلف تمامًا بفعل السنين. لقد انقطع عن هذا الشارع أكثر من خمس عشرة سنة من شأنهم تغيير كل شيء بالكامل، لكن كل هذا لم يكن بالأمر المهم بالنسبة له، فإنه لم يأت ليبحث عن ذكريات حلوة قضاها أو أشخاص يبحث عنهم، ولم يهتم لعدم معرفة أحد له في الشارع أو عدم معرفته هو لأحد، فالمهم عنده بين هؤلاء جميعًا هو شخص واحد فقط "سعيد".
أخذ أحمد يجول ببصره داخل الشارع بحثًا عن سعيد، فعلى الرغم من مرور تلك السنين إلا أن أحمد كان لديه شعور قوي بأن سعيد لا يزال على قيد الحياة. وبالفعل وجد أحمد ضالته، ولم يكن ليصدق نفسه عندما وجده في أحد الأركان جالسًا القرفصاء، واضعًا إحدى يديه على رأسه والأخرى يمدها أمامه ساندًا إياها على ركبته ناظرًا إلى الأرض وكأنه يعد حبات ترابها. وأخذ أحمد يتفحص سعيد بعد أن اقترب منه فوجده قد زادته السنون نحافة فأصبح جلدًا على عظم، وازدادت عيناه احمرارًا ووجهه قتامة وسمرة.
استمر أحمد في الاقتراب منه إلى أن أصبح أمامه تمامًا وأخذ يراقبه إلى أن وجده يحرك يده المرتجفة الضعيفة بحركة أوهنتها السنون والمصائب وكأنه يشير بالرجوع إلى الوراء، ثم صمت وأنزل يده ببطء ودمعت عيناه وقال بصوت لا يكاد يُسمع "ليه كده يا ولاد ... مش كنتوا تستنوا".
وعندما شاهد أحمد ذلك المشهد صمت ودمعت عيناه ثم وجم وكأن خياله قد عاد به إلى الوراء، وكأنه يقف الآن ليشاهد الحادث بنفسه. إنه الآن يرى الطفلين يخرجون من السيارة ويقفون على الرصيف يبحثون بين الوجوه الذاهبة والآيبة عن وجه أبيهم العزيز، وإذا به يخرج من المتجر، فينظرون إليه والفرحة تتراقص في أعينهم ولا ينتظرون فيندفعون إلى أبيهم عابرين الطريق دون أن ينظروا يمينًا أو شمالاً وهو يشير إليهم ويصرخ "ارجعوا يا ولاد" فيزداد ضحكهم ويعتقدون أن والدهم يداعبهم ويلاعبهم، فيسرعون إليه أكثر وقبل أن يصلوا إلى منتصف الطريق يُسمع صوت آلة تنبيه سيارة مرتفعة ثم صوت صرير عجلات سيارة تحاول التشبث بأرضية الطريق ثم صوت ارتطام جسدي الطفلين اللينين النضرين بجسد السيارة الصلب القاسي، وأباهم يرى المشهد، مشهد الطفلين وجسديهما يتقلبان في الهواء ثم يرتطمان في عنف بالأرض.
تخيل أحمد المشهد فسالت دموعه واقشعر جسده وأخذ يرتجف، ثم فكر قليلاً، إن كان هذا هو تأثير المشهد المتخيَّل عليه وهو الغريب عن هذين الطفلين فما هو تأثير المشهد الحقيقي على هذا الرجل وهو يراه في كل لحظة تمر عليه، وهذين الطفلين هما أغلى ما ملك في حياته؟!!!! إنه حقًا أمر لا يحتمله بشر.
اجتاحت آلاف الأفكار عقل أحمد، واقتحمت آلاف المشاعر المختلفة قلبه، وبدأ يفكر في حال هذا الرجل. لقد كان المعلم سعيد عزيزًا بين أهله وفي شارعه هذا الذي عاد إليه بعد ما واجه من محن. وبعد ما حدث له ولأسرته، وبعد ما فقد كل شيء، بعد أن فقد زوجته وولديه ثم ثروته وعمله وعقله، بعد كل ذلك أصبح مطرودًا ومنسيًا من الجميع إلا من رحم الله ممن يعطف عليه بشربة ماء أو رغيف خبز أو جلباب قديم، ونسيه أغلب من تقربوا إليه أيام عزه وثرائه ... وعقله. لقد عاش بين هؤلاء جميعًا وكان واحدًا منهم عندما كان عاقلاً يدبر أمره وأمر من حوله، وعندما فقد عقله رغمًا عنه لأنه لم يحتمل الصدمات المتتالية والمصائب المتوالية التي واجهها غفل عنه الجميع وطردوه من ذاكرتهم، حتى أنهم لم يهتموا بمجرد قص قصته على أطفالهم ليكفوا عن إيذائه، بل وسخروا منه أيضًا وكأنه ليس بإنسان أو أنه فقد عقله بإرادته.
لقد فقد هذا الرجل عقله نتيجة عاطفته الشديدة وحبه القوي لأبنائه ومن قبلهما لأمهما، فقد انقسمت حياته بعد ميلاد طفليه ووفاة أمهما إلى قسمين يشكل كل طفل من أطفاله أحدهما، وعندما ذهبا معًا ذهب الكل، ذهبت الحياة كلها بالنسبة لهذا المسكين ولم يعد لها قيمة. ومما زاد الأمر صعوبة عليه تلك النهاية، نهاية حياتهما أمام عينيه بذلك الشكل البشع، ذلك المشهد الذي تكرر منذ حدوثه آلاف وآلاف المرات أمامه حتى أصبح لا يرى إلاه، إضافة إلى إحساسه بالذنب وأنه كان سببًا بغفلته في ضياع نصفي قلبه ... طفليه. إن حب هذا الأب الحنون لأطفاله ليس جريمة يستحق عليها العقاب ما تبقى من حياته، ورغم أنه لم يملك من الإيمان ما يكفيه للحفاظ على عقله ونفسه، إلا أن هذا أيضًا ليس بذنب يُعاقب عليه. إن هذا الرجل يموت في اليوم والليلة آلاف المرات، ومثله لا يستحق العقاب، إنما يستحق العطف والمواساة.
فجأة شعر أحمد أنه وأهل هذا الشارع والمجتمع كله مدينين لهذا الرجل بأشياء عدة، مدينين له بحق الرعاية والعطف والحب، مدينين له بالاهتمام والمودة والرحمة، ومدينين له بشيء آخر أهم من كل ذلك ........
اقترب أحمد من سعيد ومال عليه ومد يده ثم ربت على كتفه وقال له: "حقك علينا يا معلم سعيد ... حقك علينا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق