الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

أحببت الحب


كثيرًا ما جال في خاطري سؤال واحد استمر معي طويلاً ولم أستطع الفرار منه، هل أحببتك؟ وكثيرًا ما تواردت إلى ذهني أفكار وإجابات عدة على هذا السؤال استبعدت معظمها، بل استبعدتها كلها، فلم تكن مقنعة أو منطقية. إلا أنني أدركت أخيرًا سبب تشتتي بين تلك الإجابات والأفكار وبعدي عن الحقيقة، فكيف لي وأنا أسأل نفسي عن الحب أن أترك نفسي للفكر المجرد، وكيف لي أن أهتدي إلى حقيقة مشاعري وأنا أستبعدها محاصرًا نفسي داخل إطار العقل والمنطق. وجاء القرار، فلا بد لي كي أدرك حقيقة مشاعري أن أترك نفسي لقلبي وإحساسي حتى أدرك طبيعته، وحينها فقط يمكنني إعمال عقلي لتحليل ما تملكني من مشاعر وأحاسيس، مع علمي بأن التخلي عن العقل ولو لفترة وجيزة قد ينتج عنه ارتكاب الكثير من الحماقات التي قد أندم عليها بعد ذلك، إلا أنني أزعنت لقراري ونفذته ووصلت إلى نتيجة أخيرة بعد إعمال قلبي وعقلي .... إنني لم أحبك!!

لقد كنت طوال عمري أحلم بالحب وأتوق إليه وأرجو دنوه من دنياي حتى ينشر داخلها الدفء والحيوية، ويغمرني بتلك المشاعر الراقية النادرة التي تسمو بالإنسان من مرتبته البشرية إلى مرتبة الملائكة. واستمر الحلم طويلاً، وفي أوج ذلك الحلم الجميل ظهرتي في حياتي، فخلعت عليكي كل ما أملكه من مشاعر اختزنتها سنين طويلة، وأصبحتي في نظري رمزًا للحب الذي طالما حلمت به، ولأني أحب الخيال، ولأن الخيال دائمًا ما يكون أثرى من الواقع، فقد فضلت الخيال، واستمر خيالي في الانطلاق حتى أصبح الحب في مخيلتي مخلوقًا أسطوريًا عملاقًا يأسرني بجلاله فيعذبني وأعشقه ويطردني وأعود إليه ويدمرني فأدمنه، لقد أصبح الحب في خيالي "أنتي".

لكني ولشدة إغراقي في الخيال نسيت العلاقة وشكلها ومضمونها، فعشت الحلم غير عابئ باستمرار العلاقة من توقفها، فشعرت بكِ وأنتي تدخلين حياتي ولم أشعر بكِ وأنتي تخرجين منها، فاستمر حبي طويلاً إلى أن أدركت الحقيقة ... إنني لم أحبك.

لقد أحببت الحب متجسدًا في شخصك، وسأظل أحب ولن أتوقف عن الحب ... عن حب الحب، لكنه عاد مجردًا في خيالي من جديد ولم يعد متجسدًا في شخصك. سأظل أحب حبًا مجردًا حتى يتجسد حبي في شخص آخر، وسأبحث عن هذا الشخص بكل ما أوتيت من قوة، إلا أنني هذه المرة لن أخلع حبي إلا على شخص قادر على تحويل حبي للحب متجسدًا في شخص إلى حب للحب لأنه اقترن بهذا الشخص، ومن يحب شخص لذاته يحب كل ما يقترن به.

حقك علينا


استيقظ أحمد من نومه مبكرًا رغم أن اليوم كان يوم إجازته، لكنه لم يقم من مرقده. استمر على وضعه طويلاً، نائمًا على ظهره ناظرًا إلى سقف حجرته لا يحرك جسده لكنه يقلب بصره من آن لآخر من سقف الحجرة إلى باقي أركانها ثم يعود إلى وضعه الأول، مركزًا بصره إلى سقف الحجرة. لم يكن أحمد يدرك وقتها كم ساعة نامها، بل لم يكن يدرك حتى إن كان قد نام أم لا، لكن هذا لم يكن ليشغله، فقد استغرق في تفكير عميق شغله عن الاهتمام بأي أمر آخر، تفكير في الحاضر، ورحيل إلى ذكريات الماضي وقت أن كان صغيرًا يلهو مع رفاقه الصغار في أحد شوارع حي الدقي بالقاهرة قبل أن يرحل هو وأسرته إلى حي المهندسين. تذكر أحمد لهوه ولعبه مع هؤلاء الأطفال وأخذ يتذكر بعض رموز ذلك الشارع من أشخاص لا يمكن نسيانهم مهما مر الزمن.


ومن بين تلك الرموز وهؤلاء الأشخاص توقف أحمد عند شخص واحد بالذات، سعيد، أو "سعيد بتنجانة" كما كان يطلق عليه هو ورفاقه الصغار وقتها وجميع أهالي الحي. ولد أحمد وكبر فوجد هذا الرجل أمامه، رجل قد فقد عقله، يسير في شارعهم والشوارع المجاورة له ببطء وكأنه يحمل جبلين فوق كتفيه يمنعاه من الإسراع، وكان هذا الرجل طويل القامة نحيف الجسد يرتدي جلبابًا يتضح أنه كان في يوم من الأيام أبيض اللون لكنه الآن مصفر متسخ مقطوع من عدة أماكن ومرقع في أماكن أخرى منه. وكان شعره بالكامل أبيض، كما كان يتضح عليه أنه لم يجاوز منتصف العقد السادس من عمره، عيناه شديدة الاحمرار وكأنه لا ينام ووجهه أسمر ترتسم عليه علامات شدة الإرهاق والتعب.


بدأ أحمد في تذكر كافة التفاصيل عن هذا الرجل وما كان يفعله هو ورفاقه معه، وبدأ يسمع صوت داخلي هو نفسه صوته يقص عليه ما كان يحدث .......

كان هذا الرجل يمر بي وبرفاقي ونحن نلعب في الشارع وعندما كنا نراه نتوقف عن اللعب ويغمز كل منا للآخر ثم يتناول كل واحد منا بعض الحجارة من الأرض ويطلق صيحة مدوية كأنها صيحة الحرب، ثم يقذف به سعيد، وتتوالى القذائف عليه فلا يسرع في خطاه ولا يقوم بأي رد فعل إلا أن يضع كلتا يديه خلف رأسه لتفادي الحجارة ويحرك رجليه ببطء شديد كي لا تهشم تلك الحجارة عظامه ويظل ينظر إلى الأرض دون أن يرفع رأسه. وكان من العجيب في هذا الرجل أنه لم يكن يتألم إثر ارتطام الحجارة بجسده، فعندما كان يصيبه أحدنا بحجر في قدمه أو ظهره لم يكن يصدر أي صوت، بل يحرك جسده إلى الأمام من أثر ارتطام الحجر به رغم أننا كنا نسمع للحجر صوت "طرقعة" إثر اصطدامه بجسده. وكأن هذا الرجل كان يحمل فوق رأسه من الألم ما يجعل أي ألم آخر عليه هينًا.


وأثناء ذلك لم نكن نلتفت لتعنيف بعض أهل الشارع لنا وحثنا على التوقف عن ذلك، وكنا نستمر في مطاردة سعيد حتى نراه يبتعد عن الشارع بأكمله. إلا أنه في إحدى المرات، وأثناء مطاردتنا له توقف فجأة ونظر أمامه وكأنه يراقب أمر خطير يحدث، ثم أخذ يشير بيديه وكأنه يحث أحدًا على الرجوع إلى الخلف وسمعناه يقول "ارجعوا يا ولاد ... ارجعوا يا ولاد ..." فحسبنا أنه يخاطبنا، ولكننا تعجبنا لأنه لم يكن ينظر إلينا، ثم أخذ يردد نفس الجملة بصوت مرتفع وبسرعة أكبر، وفجأة صرخ صرخة هائلة "آآآآآآآآآآآآآآآآآآه" ثم أخذ يبكي بشدة ويقول "ليه كده يا ولاد؟!! مش كنتوا تستنوا". واستمر في البكاء ونحن نراقب كل ذلك، إلا أنه صمت فجأة وتحول بكاؤه إلى ضحك، ضحك هستيري ارتفع إلى أن شعرنا أنه يرج أركان شارعنا بما فيه، ويخترق قلوبنا فيزرع فيها الهلع والفزع. وتملكنا الخوف، فرمى كل منا الحجارة من يديه وعدنا مسرعين كلُّ إلى بيته وعلى وجهه ملامح الخوف والفزع.


ومن وقتها توقفنا عن مطاردته، وكان عندما يمر بنا يميل كل منا إلى ركن من أركان الشارع ونظل نراقبه من بعيد وهو يسير بالشكل المعتاد ويردد نفس الجملة "ليه كده يا ولاد ... مش كنتوا تستنوا" وذلك هو كل ما تذكره أحمد عن سعيد بتنجانة.


لكن ما الذي جعل أحمد يعود بذاكرته إلى الوراء ليتوقف عند هذا الرجل بالذات؟ فمنذ أن ترك أحمد شارعه القديم لم يعد يفكر في تلك الأيام أو ذلك الشارع أو من فيه على الإطلاق، خاصة أنه تركه وهو صغير ولم يكن يذهب إلى هناك بعد أن باعت أسرته الشقة القديمة ولم يعد يربطهم بهذا الحي أي شيء وانقطعت مع الوقت أية صلة له ولأسرته بأهل هذا الشارع.


يعمل أحمد في أحد معارض الموبيليات الكبيرة بالقاهرة كمحاسب، وصاحب هذا المعرض هو رجل كبير السن دمس الخلق اسمه "الحاج شعبان"، وكان يحب أحمد حبًا شديدًا ويعتبره بمثابة ابن له. وفي اليوم السابق لهذا اليوم تلقى أحمد دعوة من الحاج شعبان لزيارته في المنزل، وبعد ذهابه وتناول العشاء مع الحاج شعبان وأسرته دعاه الحاج لتناول الشاي في الصالون ثم أتى بألبوم صور قديم وقال له أنه سوف يطلعه اليوم على بعض ذكرياته الجميلة ويعرفه على أناس كان لهم فضل كبير عليه في بداية حياته العملية.


بدأ الحاج شعبان في عرض الصور وسرد الذكريات، ومن بين الصور توقف أحمد عند صورة أذهلته وأدهشته. لقد رأى صورة للحاج شعبان مع رجل يشبه كثيرًا سعيد بتنجانة!!! لقد كانت ملامح ذلك الرجل محفورة في ذاكرة أحمد ولم تكن الأيام لتمحوها، ولكنه أراد أن يتأكد من صحة اعتقاده فسأل الحاج شعبان:

أحمد: مين الراجل اللي معاك في الصورة ده يا حاج؟

الحاج: آه ده المعلم سعيد النجار، واحد من أصحاب الفضل عليا في حياتي

أحمد: المعلم سعيد النجار!!! مين المعلم سعيد ده يا حاج؟

الحاج: ده كان تاجر أخشاب كبير بدأ حياته من الصفر وكافح وناضل لغاية ما بقى واحد من أكبر تجار الخشب والموبيليا وهو في سن صغير. الراجل ده ياما وقف معايا وكان راجل أصيل ورغم إنه بعد ما ربنا فتح عليه واغتنى عزل من المكان اللي كان ساكن فيه وسكن في فيلا في الزمالك إلا إنه كان قمة في التواضع وأسمع إنه ياما عمل خير مع ولاد حتته وخدمهم ياما وعمره ما نسيهم أبدًا لغاية ما حصل اللي حصل.

أحمد: وهو إيه اللي حصل؟

الحاج: اللي حصل كان صعب أوي يابني على الراجل المسكين ده. المعلم سعيد النجار اتجوز في سن صغير من ست فاضلة شافت معاه أيام صعبة كتير لحد ما ربنا فتحله أبواب الرزق وتعبت معاه كتير وكان بيحبها أوي، ورغم إنها كانت مبتخلفش إلا إنه كان أصيل زيها ومسبهاش وفضل يلف معاها على الدكاترة بره وجوه ويعالجها لحد ما ربنا كرمهم بعد أكتر من 10 سنين بتوأم ولد وبنت، لكن للأسف أمهم تعبت جدًا بعد الولادة وقعدت في المستشفى أسبوعين ماتت بعدهم.

أحمد: اممممممممممم

الحاج: الراجل يا عيني تعب جدًا لكن اللي صبره هو ولاده، وكان شايف فيهم أمهم اللي ماتت، حلمها اللي اتحقق بعد طول انتظار وملحقتش تفرح بيه، وفضل مراعيهم ومضلل عليهم برموش عنيه لحد ما كبروا ودخلوا المدرسة ... يااااااااااه ... ده ياما حكالي عنهم وعن أمهم ... ياللا الله يرحمهم بقى

أحمد: يرحمهم!!!! هما مين دول؟

الحاج: الست وولادها يا عيني.


واستمر الحاج شعبان في حديثه مع أحمد ليقص عليه مأساة هذا الرجل. ففي أحد الأيام كان المعلم سعيد مستقلاً لسيارته هو وأولاده عائدًا بهم من مدرستهم، وكان عمرهما آنذاك سبعة أعوام، وكان هذا اليوم هو يوم ميلادهم، وتذكر المعلم سعيد وهو على الطريق في أحد الشوارع الرئيسية أحد متطلبات حفلة عيد الميلاد التي سوف يقيمها لهما كعادته كل سنة، فطلب من ابنه وابنته انتظاره في السيارة وعدم التحرك لحين انتهائه من شراء تلك المتطلبات، ولكنه لم يفطن إلى أن صغر سن هذين الطفلين قد يمنعهما من الاستجابة لذلك الطلب، وأنهما إذا ما شعروا بالوحشة أو الملل من الانتظار فمن الوارد أن يخرجوا من السيارة لاستعجال والدهم ... وهذا ما حدث بالفعل.


فبعد أن تركهم والدهم وعبر الشارع إلى الناحية الأخرى واشترى ما يلزمه ويلزم أطفاله وخرج من المتجر فوجئ بمشهد أوقف سريان الدم في عروقه ورفع درجة حرارته فجأة إلى أضعاف الدرجة الطبيعية وزاد من سرعة ضربات قلبه لتصل إلى مئات الضربات في الدقيقة الواحدة، فقد وجد ابنه وابنته قد خرجا من السيارة ووقفا على الرصيف في انتظاره. وبمجرد أن رأوه خارجًا من المتجر اندفعوا إليه مهللين فرحين غير مدركين للخطر الداهم الذي ينتظرهم، تلك السيارات المميتة التي قد تدهسهم في أية لحظة ... وقبل أن يتدارك سعيد الموقف كان الأمر قد انتهى وكان ما كان.


توقف الحاج شعبان عن الحديث وصمت بعد أن ظهرت على ملامح وجهه علامات الأسى والحزن، إلا أن أحمد قاطعه مستفسرًا عما حدث بعد ذلك، فقال له أن الرجل صُدم صدمة قاتلة رقد على إثرها أيام طوال في المشفى، وبعد ذلك خرج منها في حالة سيئة. وكان لا يتحدث مع أحد ولا ينظر إلى أحد. ثم نُقل بعد ذلك إلى إحدى مستشفيات الأمراض العقلية للعلاج، وأنه قِيل له أن المعلم سعيد قد هرب منها بعد أيام قليلة ولم يظهر بعدها مرة أخرى. وقال له أنه كان خارج البلاد وقتها وأن كل ما قصه عليه هي روايات سمعها من بعض التجار الذين كان لهم تعامل مع المعلم سعيد وأنه لا يعرف عنه أكثر من ذلك.


جلس أحمد مع الحاج شعبان فترة وجيزة وهو شارد الذهن لا يتكلم إلا ليرد على الحاج، ينظر إلى الحاج ولا يراه، وكأنه ينظر إلى لا شيء، ولا يمد يده إلى شراب أو حلوى مما قُدم إليه، إلى أن شعر أنه لن يمكنه الاستمرار كذلك وأنه يريد أن ينفرد بنفسه، فاستأذن الحاج وعاد إلى بيته. وبمجرد أن عاد إلى بيته لم يأكل ولم يشرب، بل دخل إلى حجرته وبدل ثيابه ودخل في مرقده وظل في حالة بين اليقظة والنوم حتى الصباح.


أفاق أحمد من حالته تلك على قرار أخذه وصمم عليه. لقد قرر أن يذهب إلى الشارع القديم، حيث كان يسكن، وعلى الرغم من انقطاعه عن زيارة الشارع منذ أن كان صغيرًا إلا أن اسمه والطريق إليه كان محفورًا في ذاكرته. وبعد أن بدل ثيابه ونزل من منزله دون حتى أن يتناول إفطاره لم يجد أية صعوبة في الوصول إلى هناك. وعندما دخل شارعه القديم لم يكن ليتعرف على أي شيء مما عهده فيه، فالشارع اختلف تمامًا بفعل السنين. لقد انقطع عن هذا الشارع أكثر من خمس عشرة سنة من شأنهم تغيير كل شيء بالكامل، لكن كل هذا لم يكن بالأمر المهم بالنسبة له، فإنه لم يأت ليبحث عن ذكريات حلوة قضاها أو أشخاص يبحث عنهم، ولم يهتم لعدم معرفة أحد له في الشارع أو عدم معرفته هو لأحد، فالمهم عنده بين هؤلاء جميعًا هو شخص واحد فقط "سعيد".


أخذ أحمد يجول ببصره داخل الشارع بحثًا عن سعيد، فعلى الرغم من مرور تلك السنين إلا أن أحمد كان لديه شعور قوي بأن سعيد لا يزال على قيد الحياة. وبالفعل وجد أحمد ضالته، ولم يكن ليصدق نفسه عندما وجده في أحد الأركان جالسًا القرفصاء، واضعًا إحدى يديه على رأسه والأخرى يمدها أمامه ساندًا إياها على ركبته ناظرًا إلى الأرض وكأنه يعد حبات ترابها. وأخذ أحمد يتفحص سعيد بعد أن اقترب منه فوجده قد زادته السنون نحافة فأصبح جلدًا على عظم، وازدادت عيناه احمرارًا ووجهه قتامة وسمرة.


استمر أحمد في الاقتراب منه إلى أن أصبح أمامه تمامًا وأخذ يراقبه إلى أن وجده يحرك يده المرتجفة الضعيفة بحركة أوهنتها السنون والمصائب وكأنه يشير بالرجوع إلى الوراء، ثم صمت وأنزل يده ببطء ودمعت عيناه وقال بصوت لا يكاد يُسمع "ليه كده يا ولاد ... مش كنتوا تستنوا".


وعندما شاهد أحمد ذلك المشهد صمت ودمعت عيناه ثم وجم وكأن خياله قد عاد به إلى الوراء، وكأنه يقف الآن ليشاهد الحادث بنفسه. إنه الآن يرى الطفلين يخرجون من السيارة ويقفون على الرصيف يبحثون بين الوجوه الذاهبة والآيبة عن وجه أبيهم العزيز، وإذا به يخرج من المتجر، فينظرون إليه والفرحة تتراقص في أعينهم ولا ينتظرون فيندفعون إلى أبيهم عابرين الطريق دون أن ينظروا يمينًا أو شمالاً وهو يشير إليهم ويصرخ "ارجعوا يا ولاد" فيزداد ضحكهم ويعتقدون أن والدهم يداعبهم ويلاعبهم، فيسرعون إليه أكثر وقبل أن يصلوا إلى منتصف الطريق يُسمع صوت آلة تنبيه سيارة مرتفعة ثم صوت صرير عجلات سيارة تحاول التشبث بأرضية الطريق ثم صوت ارتطام جسدي الطفلين اللينين النضرين بجسد السيارة الصلب القاسي، وأباهم يرى المشهد، مشهد الطفلين وجسديهما يتقلبان في الهواء ثم يرتطمان في عنف بالأرض.


تخيل أحمد المشهد فسالت دموعه واقشعر جسده وأخذ يرتجف، ثم فكر قليلاً، إن كان هذا هو تأثير المشهد المتخيَّل عليه وهو الغريب عن هذين الطفلين فما هو تأثير المشهد الحقيقي على هذا الرجل وهو يراه في كل لحظة تمر عليه، وهذين الطفلين هما أغلى ما ملك في حياته؟!!!! إنه حقًا أمر لا يحتمله بشر.


اجتاحت آلاف الأفكار عقل أحمد، واقتحمت آلاف المشاعر المختلفة قلبه، وبدأ يفكر في حال هذا الرجل. لقد كان المعلم سعيد عزيزًا بين أهله وفي شارعه هذا الذي عاد إليه بعد ما واجه من محن. وبعد ما حدث له ولأسرته، وبعد ما فقد كل شيء، بعد أن فقد زوجته وولديه ثم ثروته وعمله وعقله، بعد كل ذلك أصبح مطرودًا ومنسيًا من الجميع إلا من رحم الله ممن يعطف عليه بشربة ماء أو رغيف خبز أو جلباب قديم، ونسيه أغلب من تقربوا إليه أيام عزه وثرائه ... وعقله. لقد عاش بين هؤلاء جميعًا وكان واحدًا منهم عندما كان عاقلاً يدبر أمره وأمر من حوله، وعندما فقد عقله رغمًا عنه لأنه لم يحتمل الصدمات المتتالية والمصائب المتوالية التي واجهها غفل عنه الجميع وطردوه من ذاكرتهم، حتى أنهم لم يهتموا بمجرد قص قصته على أطفالهم ليكفوا عن إيذائه، بل وسخروا منه أيضًا وكأنه ليس بإنسان أو أنه فقد عقله بإرادته.


لقد فقد هذا الرجل عقله نتيجة عاطفته الشديدة وحبه القوي لأبنائه ومن قبلهما لأمهما، فقد انقسمت حياته بعد ميلاد طفليه ووفاة أمهما إلى قسمين يشكل كل طفل من أطفاله أحدهما، وعندما ذهبا معًا ذهب الكل، ذهبت الحياة كلها بالنسبة لهذا المسكين ولم يعد لها قيمة. ومما زاد الأمر صعوبة عليه تلك النهاية، نهاية حياتهما أمام عينيه بذلك الشكل البشع، ذلك المشهد الذي تكرر منذ حدوثه آلاف وآلاف المرات أمامه حتى أصبح لا يرى إلاه، إضافة إلى إحساسه بالذنب وأنه كان سببًا بغفلته في ضياع نصفي قلبه ... طفليه. إن حب هذا الأب الحنون لأطفاله ليس جريمة يستحق عليها العقاب ما تبقى من حياته، ورغم أنه لم يملك من الإيمان ما يكفيه للحفاظ على عقله ونفسه، إلا أن هذا أيضًا ليس بذنب يُعاقب عليه. إن هذا الرجل يموت في اليوم والليلة آلاف المرات، ومثله لا يستحق العقاب، إنما يستحق العطف والمواساة.


فجأة شعر أحمد أنه وأهل هذا الشارع والمجتمع كله مدينين لهذا الرجل بأشياء عدة، مدينين له بحق الرعاية والعطف والحب، مدينين له بالاهتمام والمودة والرحمة، ومدينين له بشيء آخر أهم من كل ذلك ........

اقترب أحمد من سعيد ومال عليه ومد يده ثم ربت على كتفه وقال له: "حقك علينا يا معلم سعيد ... حقك علينا".

الثلاثاء، 9 مارس 2010

الغربة


في هذه اللحظات تذكرها، وتذكر الموقف، كانت تقف بين يديه في شرفة منزلهما، كانت تستعطفه بدموعها وتتوسل إليه بتنهداتها وبكائها، كانت تستحلفه بأعز ما يملكون في هذه الدنيا، بأطفال ثلاث، ولد وبنتان، هم كل ما يملكون في هذه الدنيا وأغلى ما يملكون، تحاول أن تثنيه عن قرار اتخذه بعد تفكير طويل، واعتراض منها وتصميم منه، محاولات منها ومراوغات منه، لقد قرر بعد دراسة أحسها منطقية وموضوعية أن يسافر، قرر أن يعمل بالخارج ويترك عمله هنا حتى يوفر لزوجته العزيزة وأطفاله مستوى متميز يعيشونه ويشبون فيه، قرر أخيرًا وعلى كره منه واعتراض من زوجته أن يلقي بنفسه في أحضان الغربة الباردة.

وقفت يومها أمامه والدموع تملأ عينيها

- بلاش يا "طاهر" ... بلاش

- مينفعش يا حنين.

- يا حبيبي وجودك وسطنا بالدنيا واللي فيها، احنا مش عايزين من الدنيا دي غير لمتنا ووجودك وسطنا.

- أنا عارف، بس والله أنا بعمل كده علشانكوا، نفسي الأولاد ميحتاجوش حاجة، نفسي أجيبلهم الدنيا باللي فيها.

- بس انت شغال هنا شغل محترم واحنا مستورين والحمد لله.

- الحمد لله على كل شيء، لكن أنا عايز اللي أكتر من الستر، أنا عايز ولادي ميطلبوش حاجة غير ويلاقوها.

- بس الولاد محتاجينك معاهم، بكرة يكبروا ووجودك وسطهم مهم ... مهم أوي يا طاهر.

- يا حبيبتي انتي ليه بتتكلمي كده وأكني مسافر ومش راجع، أنا إن شاء الله سنتين تلاتة بالكتير أأمن مستقبلنا ومستقبل الولاد وأرجع على طول.

- سنتين تلاتة؟!!! يا طاهر جوه دوامة الغربة مفيش معنى للسنين، السنين فيها زيها زي الأيام والساعات والدقايق والثواني.

- بلاش تشاؤم بس، وبعدين أنا خلاص حجزت والطيارة بكرة إن شاء الله، ومينفعش أرجع في كلامي.

لم تحتمل تلك الكلمات، وكأنها كانت تستمع إلى خبر رحيله للمرة الأولى، وانسابت دموعها وجهشت بالبكاء، فضمها بين ذراعيه وأخذ يطمئنها ويحلم معها بصوت عال، يحلم بالسيارة والمنزل الواسع المكون من طابقين، والذي طالما تمنته هي وحلمت به، وبأبنائهم في أرقى المدارس و... و... و... ، أحلام كثيرة أخذ يسردها ويسرح معها، واستمر كذلك حتى توقفت عن البكاء، وبعد صمتها لفترة قالت له بصوت مرتعش

- أنا خايفة أوي يا طاهر ... أوي

- متخافيش يا حبيبتي، هما سنتين تلاتة زي ما قلتلك وكل أحلامنا هتتحقق وهنرجع ونتلم تاني مع بعض، أنا بوعدك.

تذكر كل ذلك وهو يقف في نافذة منزله في "الغربة" وهو يتطلع إلى السماء وقد غطاها الليل بظلمته، وظهر القمر ومن حوله النجوم المنيرة في مشهد أثار في قلبه الحنين إلى الوطن ... بلده وبيته.

تذكر أول زيارة له إلى بلده بعد سنتين قضاهما في الغربة، تذكر لحظة مقابلة زوجته وأبنائه له في المطار وكانت أعمارهم وقتها تتراوح ما بين ثلاثة إلى ستة أعوام، تذكر مشهد آلمه وقتها كثيرًا، تذكر كيف وقف أطفاله بعيدين عنه وعندما نادى عليهم "تعالوا يا حبايبي"، وكيف اختبأ كل منهم خلف أمه ورفض إلقاء نفسه بين ذراعيه المفتوحين ... "انتوا مش عارفيني، أنا بابا" لكن هيهات أن يتقدم أحدهم خطوة واحدة تجاهه، إلى أن تدخلت زوجته "معلش كلها يومين ويتعودوا عليك".

تذكر آخر أيام تلك الإجازة، عندما وقف هو وزوجته في الموقف ذاته، في شرفة المنزل:

- مش كفاية كده يا طاهر.. مش كفاية غربة وترجع بقى.

- مينفعش .. أنا دلوقت وصلت لمكانة كويسة أوي وقربت أوصل لكل الأحلام اللي رسمتها، ولو رجعت هخسر كل اللي عملته وكل المجهود اللي بذلته.

- يا طاهر الولاد محتاجينلك.

- يا حبيبتي مانتي اللي رافضة تسافري تعيشي معايا انتي والأولاد

- أنا مسبش بلدي يا طاهر ومسبش ولادي يتربوا بره بلدهم .. أنا مستحملش الغربة ولو يوم واحد لا أنا ولا الولاد .. مش كفاية انت متغرب

- خلاص يبقى نستحمل وإن شاء الله قريب هنزل وأستقر معاكوا.

- (قالت بنبرة يشوبها الكثير من الشك) إن شاء الله.

تذكر جميع زياراته إلى بلده ومفاجأته كل مرة بالأولاد، إنهم يكبرون بسرعة، أم هي الأيام التي تمر بسرعة؟ لم يكن يدري وقتها الإجابة، وكل ما كان يشغل باله هو المستقبل وكيف ستكون الأيام مزدهرة عندما يعود إلى الوطن.

مرت السنون أمام عينيه الآن، ودارت به الأيام ثم عادت به إلى لحظته الراهنة، أخذ يفكر في حاله الآن، بعد مرور أكثر من عشرة أعوام، وأخذ يسأل نفسه، كيف احتمل ذلك؟ كيف احتمل أن يعيش بعيدًا عن بيته كل تلك السنين؟ كيف أضاع أحلى الأعوام من عمر أطفاله ولم يكن بجوارهم يرقبهم وهم يكبرون وينضجون يومًا بعد يوم كالغرس في الأرض، يعيش معهم ليرى ويراقب ويستمتع بكل لحظة يعيشونها أمامه؟ كيف أضاع أحلى الأعوام من عمره وعمر زوجته؟ كيف أضاع أحلى أيام الشباب بعيدًا عنها تفصلهم أميال من صحاري ومزارع وبحار وأنهار وجبال وسهول ووديان؟ كيف ترك أسرته تبتعد عن أحضانه كل تلك الفترة؟ وما المقابل؟ هل يكفي أمام ذلك آلاف من الجنيهات يجمعها؟ وهل أطفاله كانوا ولم يزالوا بحاجة إليه أكثر أم إلى أمواله التي يجمعها؟ سأل نفسه كثيرًا إلى أن شعر بالندم ينهش أعضاءه ويمزق كيانه، وشعر بالحنين الشديد إلى أسرته. شعر بروحه تخرج من جسده، لكنه ليس الموت، إنه الشوق، إنه الحنين، وشعر بروحه تعبر الأميال، تعبر الصحاري والمزارع والبحار والأنهار والجبال والسهول والوديان، تجوب البلاد إلى أن تصل إلى الهدف والمقصد، إلى منزل الزوجية، إلى السكن، ولا تطرق الباب، لا تريد أن يشعر بها أحد، فتتسلل من النافذة، تدخل وتقترب من زوجته، تشعر بدفء أنفاسها وترتوي منها كيفما تشاء، تدور في الهواء وتنسل إلى حجرات الأبناء، تحتضنهم وتقبلهم، تسامرهم وتضحك معهم، تطلب منهم العفو عن تلك الأيام الضائعة والسنوات المنقضية. ثم تتركهم ليسكنوا ويخلدوا إلى النوم، تغطيهم وتقبل جبينهم وتتمنى لهم أحلامًا سعيدة.

لقد أخطأ في حساباته وأخطأ في قراره، قارن بين أمور مادية وأمور معنوية، بين مال ورعاية، بين ثروة واهتمام، بين جاه ومتابعة، بين آلاف وحب. لقد ظن أنه يصنع مستقبله ومستقبل أبنائه في وقت كان مستقبله يتآكل، تتناقص منه الأيام والشهور والسنين، تمضي بلا عودة، وتنقضي فتعطي القليل وتأخذ الكثير، أضاع من عمره وعمر زوجته وأطفاله أكثر من عشر سنوات من أجمل وأحلى سنين العمر من أجل أن يستمر في نجاحاته النظرية بالخارج وإخفاقاته الواقعية تجاه أسرته، أضاعها وهو يطارد هدفًا متحركًا كلما شعر بالاقتراب منه ابتعد عنه أكثر وأكثر، لقد أخطأ في حق نفسه وحق أسرته، لكن الآن ... ما العمل ... هل يترك كل ذلك؟ هل يصفي أعماله ويعود؟ سؤال صعب لم يجد له إجابة سريعة.

سأل طاهر نفسه هذا السؤال مرات ومرات دون أن يجد الإجابة، وكان أثناء ذلك كله لم يزل في النافذة يطالع السماء والقمر والنجوم ويدعو الله أن يهديه إلى الصواب وإلى الرأي السديد. وأثناء تجواله بعينيه في السماء تبدلت المشاهد فجأة أمامه، فإذا بالقمر يعكس وجه حبيبته وزوجته ليضيء له روحه وقلبه، وإذا بالنجوم أبنائه يهدونه إلى الطريق ... وهنا اتخذ القرار

- إني عائد ... إني عائد

الجمعة، 15 يناير 2010

أمل


لم يكن أحد ليتوقع أو يتخيل المشهد، أو يتصور أن توجد مثل هذه المنطقة في قلب العاصمة المتطورة المتمدنة. كان المشهد بالفعل غريبًا، أرض منخفضة بعض الشيء لا توجد بها عمارات أو أبنية، لا يوجد بها سوى أكواخ خشبية متلاصقة لا ترتفع لأكثر من بضعة أمتار ومنها ما هو تحت مستوى الأرض قمته عند مستوى سطح الأرض وكأنه تابوت خشبي كبير لا يحوي سوى أجساد لا توجد بها روح، وبقايا حياة. وبين تلك الأكواخ الخشبية لا يوجد سوى مساحات صغيرة جدًا تسمح بالكاد بمرور شخص أو شخصين على الأكثر في ذات الوقت، وتمتلئ تلك المساحات التي تمثل الطرقات في هذه المنطقة بمخلفات بشرية تجعل من تلك الطرقات ملاذًا لأسراب الذباب والبعوض والحشرات الحائمة، بالإضافة إلى رائحة نتنة غير آدمية تزكم الأنوف.

أما ما يجعل المشهد أشد عجبًا فهو الأبنية المحيطة بهذه المنطقة، وهي أبنية متطورة شديدة الارتفاع تسر الناظرين، أبنية تمتلئ شرفاتها بنباتات الزينة والزهور، وتفوح منها روائح اللحوم والأسماك المشوية وغيرها من روائح الأطعمة الشهية. وعلى نوافذها من الخارج تظهر الأجسام الخارجية لأجهزة التكييف التي تخفف من قيظ وحرارة الصيف وتغمر ليالي الشتاء بجو دافئ يبعث على الراحة والاسترخاء بعيدًا عن برودة الجو بالخارج.

عادة ما يثير التناقض العجب، وكان هذا هو موطن العجب في هذا المشهد، فهذه منطقة بائسة مذرية الأحوال محاطة من كل جانب بعمارات فارهة شاهقة الارتفاع، وكأنها نقطة سوداء في صفحة بيضاء، أو جزيرة بركانية في محيط واسع من المياه الباردة المنعشة، ولهذا السبب أطلق على هذه المنطقة اسم "جزيرة الكرب".

عندما تخطو بقدميك داخل جزيرة الكرب تشعر للوهلة الأولى أن وجود بشر يعيشون في تلك المنطقة هو أمر من وحي الخيال، لكن هذا الشعور لا يلبث أن يتلاشى ويحل محله الذهول ثم الأسى عندما تمشي في ممراتها وترى أهلها، ترى وجوه ميتة تمشي على أقدام، وجوه تنعكس عليها ملامح اليأس والبؤس والأسى، ويكسوها شحوب واصفرار وأحيانًا سواد لا تفهم أسبابه إلا عندما تمشي داخل الجزيرة وترى أحوالها، لكن هذه الحالة لم تكن على الشكل نفسه من سنة واحدة، فمن سنة واحدة كانت تلك الوجوه الفقيرة يحدوها الأمل في غد أفضل وحياة أرقى، فما هي القصة إذًا وما هي الحكاية.

كانت الحياة في جزيرة الكرب على هيأتها الحالية نفسها من هم وغم وبؤس وشقاء من عقدين ونصف العقد تقريبًا، مما لم يدع أي مجال لأهلها للتفكير في تعليم أبنائهم إلى أن وُلدت "أمل" وكانت "أمل" طفلة غير كل الأطفال وفتاة غير كل الفتيات. فقد كانت بداخلها طاقة وحماس شديد وقوة وصلابة ليس لهما مثيل في الجزيرة وأمل في الغد ورغبة في نفع نفسها وأهلها وأهل الجزيرة ككل.

كانت أمل تحلم منذ صغرها أن تصبح طبيبة كبيرة ذات شأن كبير، وعملت من سنوات حياتها المبكرة على تحقيق حلمها، فعندما أراد والدها أن يحبط أحلامها ويبعدها عن الدراسة، مثلها مثل باقي الأطفال في الجزيرة، رفضت واستعطفته بالدموع والتوسلات ووعدته بأنها لن تكلفه أي شيء وأنها سوف تعمل وتنفق على نفسها، وهذا ما حدث بالفعل، فقد كافحت الطفلة منذ نعومة أظافرها إلى أن وصلت إلى المرحلة الثانوية، ثم حصلت على مجموع كبير أدخلها كلية الطب التي طالما حلمت بها، وهنا تغير الوضع، فلم يعد حلم أمل حلمًا يخصها وحدها، بل أصبح حلمًا يخص سكان الجزيرة وأهلها جميعهم، وتحولت أمل في أعين أهل الجزيرة إلى رمز، رمز لأحلامهم، رمز لطموحاتهم، رمز لآمالهم المدفونة بداخلهم من سنين، وأصبح الجميع يشجعونها ويطلبون منها الاستمرار وتشريفهم وتحقيق أحلامهم، وأصبحت من أول يوم لها بكلية الطب "الدكتورة أمل" وأصبحت بالنسبة لجميع أهلها وجيرانها الصلة الوحيدة بينهم وبين العالم الخارجي، بين أرض الموتى وأرض الأحياء، بين الأرض والسماء، وأصبح وجودها يصبرهم على ما يقاسون من مرارة العيش، فلا يجدون المأكل ويصبرون لأن لديهم أمل، ولا يجدون الملبس ويصبرون لأن لديهم أمل، ويعيشون بين الحشرات والقوارض ولا يجدون أدنى مشكلة .. فلديهم أمل، وتلدغهم العقارب والثعابين التي ترعى في أكواخهم ويقاومون السم والألم لأن لديهم أمل، تغمر مياه الأمطار في الشتاء مراقدهم ولا يكترثون لأن لديهم أمل، ولا يجدون مكانًا لقضاء حاجتهم في غياب شبكات الصرف الصحي عنهم ولا يشعرون بأدنى ضيق لأن لديهم أمل، لقد أصبحوا أخيرًا يعيشون على أمل، لقد أصبحوا أخيرًا يعيشون بأمل.

أما أمل فقد كانت تشعر بمسئولية كبيرة تجاه أهل جزيرتها وتجاه أهلها ونفسها وصممت منذ البداية على التفوق وعلى أن تصبح أستاذة جامعية كبيرة ذات اسم يتشرف به أهل الجزيرة جميعهم، وبالتالي تحول هذا الحلم أيضًا إلى حلم خاص بأهل الجزيرة. سعت أمل من البداية إلى تحقيق هذا الحلم وبالفعل تفوقت وكانت طوال سنوات دراستها الأولى على دفعتها، وعند ظهور نتيجة السنة الأخيرة للدراسة انطلقت الزغاريد داخل جزيرة الكرب ووزع الشربات ودقت الطبول وتعالت الأغاني والأهازيج، فقد جاءت أمل في المركز الأول أيضًا على دفعتها ليتحقق حلم الجميع – من وجهة نظرهم – بأن تصبح الدكتورة أمل استاذة جامعية وهو ما اعتقده الجميع.

وكان هذا الاعتقاد أمرًا طبيعيًا حيث إنه من الطبيعي أن تصبح معيدة في كليتها لتبدأ رحلة جديدة تصل من خلالها إلى لقب "الأستاذة" الذي تطمح إليه، إلا أن العدد المطلوب – لسوء حظها – في هذه السنة من الطلاب الأوائل خمسة طلاب فقط، ولسوء الحظ فإن المراكز التالية لها قد احتلها طلاب من أبناء أساتذة الجامعات وكبار المسئولين، وقامت الوساطة بدورها لتجد أمل نفسها خارج القائمة، خارج نطاق الحلم.
لم تكن أمل هي الشخص الذي يُكسر بهذه السهولة، فقد صممت بصلابتها وقوتها المعهودة على الحصول على حقها، ونحن في دولة لها قوانين وقواعد، هكذا حدثت نفسها، وبالتالي فإنها بعد شكوى مقدمة لرئيس الجامعة أو غيره من المسئولين سوف تحصل على حقها. وفعلاً قدمت شكوى ... شكوتين ... عشرة ... عشرات الشكاوى في جميع الاتجاهات، واستمرت في محاولاتها أكثر من سنة كاملة دون أن تحصل على أي شيء أو أي أمل في الحصول على حقها. وفي النهاية ذهبت بنفسها في محاولة أخيرة لمقابلة وزير التعليم العالي بنفسه، إلا أنها وبعد أن وصلت إلى مكتبه وجدت نفسها محاطة بنظرات الازدراء والاحتقار من قبل العاملين في مكتب السيد الوزير وانتهى الأمر بطردها، فمن هي لتقابل وزيرًا، إنها مهما بلغت قدراتها العلمية ليست سوى فرد ينتمي إلى "جزيرة الكرب".

أحست أمل بإهانة كبيرة لها وشعرت بوضعها الحقيقي داخل دولتها، ووضع أمثالها الحقيقي، فمن هي ومن أهلها ومن عشيرتها لتصل إلى القمة، إلى قمة أي شيء، إن أمثالها خلقوا للقاع، للقاع فقط. شعرت أمل بانهيار كل ما قامت به من مجهودات خلال أعوام دراستها منذ الطفولة وحتى انتهاء المرحلة الجامعية، شعرت بالضياع، للمرة الأولى في حياتها تشعر بهذا الشعور فمهما كانت درجة البؤس والشقاء التي عاشتها وعايشتها منذ طفولتها إلا أن وقود الأمل بداخلها كان يحركها ويحرك جميع من يحتك بها ويتعامل معها، لقد كانت هي بما لديها من طاقة الأمل الذي عاش عليه أهل الجزيرة لفترة طويلة، كانت دائمًا لا تنظر أسفل أقدامها، بل تنظر أمامها في رغبة حقيقية للتقدم، وربما كانت تلك هي مشكلتها فعندما لم تنظر أسفل أقدامها لم تدرك واقعها، وبالتالي لم تصل إلى المستقبل الذي تحلم به، شعرت أمل بالظلم، شعور مؤلم كثيرًا ما شعرت به منذ طفولتها، إلا أن حلمها بغد أفضل كان يهون عليها احساسها بالظلم، أما الآن فهي أمام نهاية، نهاية لفترة جميلة عاشتها في خيالها فقط، وعاشها معها أهل الجزيرة، نهاية ظالمة مخزية قضت على ما تبقى من نور داخل أجسام مظلمة مظلومة، نهاية حقيقية لأمل جميل.
مشت أمل كثيرًا في رحلة عودتها من مكتب السيد الوزير إلى "جزيرة الكرب" إلى أن بلغت مشارف الحدود الشمالية للجزيرة، تلك الحدود التي ترسمها قضبان القطار، ذلك القطار الذي كثيرًا ما ظلت أمل ترقبه من بعيد وتتمنى أن تستقله في يوم من الأيام، كانت أمل وهي طفلة تتأمل كثيرًا تلك القضبان والقطار عندما يمر عليها وتشعر أن هذا القطار سوف يحملها في يوم من الأيام إلى دنيا أخرى غير تلك التي تعيشها ويأخذها من أرض الكرب إلى أرض الأحلام الوردية الجميلة، وظلت هكذا كثيرًا، تراقبه وتحلم، إلى أن أصبح هذا القطار رمزًا لأحلامها. كانت أمل في رحلة عودتها إلى أرض الواقع، إلى جزيرة الكرب، عندما سمعت صوت الأجراس تنبئ بقدوم القطار، فانتظرت مع المنتظرين من أهل الجزيرة للعبور إلى الجزيرة، ومع تأملها لشريط القطار مر بخاطرها شريط السنة الماضية المؤلمة التي عاشتها وما تعرضت له من ظلم منذ استبعادها من قبل الجامعة إلى اللحظة التي تعايشها ففكرت وأخذت القرار في لحظة.

جرت أمل بشكل جنوني مفاجئ أمام أعين أهل الجزيرة المراقبة تجاه قضبان القطار القادم وافترشتها وكأنها ترحب بعجلات القطار الآتية لتحطيم عظامها وهرس لحمها، وفي لحظات مر القطار بالفعل ليصبح رمز الحلم رمزًا لنهاية الحلم، وتشهد قضبان القطار مولد الحلم ونهايته أمام أعين أهل الجزيرة.

وبتلك النهاية انطفأت الشمعة الأخيرة في ظلمات الجزيرة الساجية، وأفل آخر نجم في سماء الأحلام ليتركها سوداء قاتمة اللون لا يرى فيها حاضر أو مستقبل. ومن هنا يمكن فهم تلك النظرات الحزينة التي تملأ العيون والملامح الكئيبة التي تكسو الوجوه في جزيرة الكرب، تلك النظرات والملامح التي اختفت لفترة، فترة الأمل، ثم عادت مرة أخرى لتستقر هنا في انتظار أمل جديد، أو نهاية شبيهة بنهاية "أمل" أصبح الآن قديمًا.