السبت، 17 أكتوبر 2009

الروح غالية


كان الجو بالخارج شديد البرودة، أما في الداخل فكانت الحرارة مرتفعة خانقة. ففي الخارج كان الشتاء والهواء البارد النشط والأمطار التي تنهمر بغزارة، لكن بالداخل، داخل إحدى عربات قطار مترو الأنفاق كانت الأنفاس تلهب الجو وتجعله حارًا خانقًا خاصة في ظل تقارب الأجساد وتلاحمها وتشابكها وكأنها الجسد الواحد. كانت العربة، مثلها مثل باقي عربات المترو، مليئة بالركاب لدرجة لا تسمح بدخول أي أفراد جدد إليها إلا من خلال وسائل مساعدة خارجية متمثلة في الدفع من قبل بعض المنتظرين على رصيف المحطة باليد والجسد وأحيانًا بالقدم!!!

وفي الداخل أيضًا الأوضاع غريبة، لكنها غريبة فقط على من لا يألفها من الركاب الجدد، أما المخضرمون وذوو الخبرات والباع الطويل داخل عربات المترو فهو وضع مألوف يعايشونه يومًا بعد يوم. ففي الداخل كان الركاب يقفون في أوضاع غريبة، فمنهم من يضع إحدى يديه فوق رأسه والأخرى حبيسة الزحام بالأسفل، ومنهم من يقف على قدم واحدة والأخرى معلقة أو موضوعة على قدم فرد آخر، وكل فرد من هؤلاء يظل على الوضع الأول الذي دخل به العربة ويستمر ذلك الوضع أحيانًا لأكثر من محطة حتى يصبح هناك متسع لضبط الأوضاع والأجساد قدر المستطاع، أما من يمسكون بأي شيء في أيديهم فإنهم يتشبثون به بكل قوتهم لأن سقوط أي شيء قد يعني ضياعه إلى الأبد!!!

وفي الداخل كانت هناك حلقات بلاستيكية مدلاة من قضبان حديدية مثبتة بسقف العربة، تلك الحلقات متناثرة بشكل غير منتظم، ومنها الكامل ومنها الممزق، والعجيب أن معظم الركاب لا يمسكون بها ولهم حكمة في ذلك، حيث إنه لا توجد مساحة كافية تسمح لأي فرد بالوقوع داخل العربة، فعلام التشبث بها إذًا، وبالتالي تتحول أهمية تلك الحلقات من كونها مساعد على الوقوف داخل العربة إلى مساعد على البقاء داخلها حتى لا ينجرف أي من الركاب مع التيار البشري خارج العربة ليجد نفسه على رصيف إحدى المحطات التي لا يقصدها. وبالتالي يصبح جميع من بالداخل كتلة بشرية واحدة تهتز وتتحرك يمينًا ويسارًا وللأمام والخلف نتيجة لحركة المترو، فلا فرق بين رجل وامرأة أو بين طفل وشاب وعجوز أو بين مسلم ومسيحي، فالكل واحد وكأن عربات المترو تقف كأحد أهم رموز الوحدة الوطنية في مصرنا المحروسة.

وداخل عربة المترو تقع العيون على مشاهد عديدة، لكنها لا تميز إلا الغريب منها، مثل مجموعة من الشباب وقفوا يضحكون ويسخرون من حالهم وحال باقي الركاب غير عابئين بالوضع الذي يعايشونه، ورجل عجوز جالس على أحد مقاعد العربة غير قادر على فتح أجفانه المثقلة بالنوم، فيغفو وتميل رأسه إلى أن تكاد تسقط منه على صدره فيستيقظ من غفوته ويفتح أجفانه ويعدل من وضع رأسه ثم تعاود أجفانه ورأسه الكرّة من جديد، ومجموعة من المثقفين الذين يتصفحون الجرائد خاصة ما بها من مانشيتات عريضة وأخبار رياضية، وبعض الفضوليين مختلسي الثقافة ممن يحيطون بهؤلاء وتتقلب أبصارهم مع قلب أصحاب الجرائد لصفحاتها وتميل أعناقهم ورؤوسهم للحاق ببعض بقايا المانشيتات قبل أن تذهب بلا عودة بين ثنيات الجريدة بعد قلب صاحب الجريدة للصفحة، إلى غير ذلك من المشاهد المميزة المعتادة!!

وفي إحدى المحطات، وبقوة الدفع استطاع أحد الأفراد الركوب وكان هذا الراكب واضعًا كمامة على أنفه وفمه. وبمجرد أن صعد على متن العربة بدأت الأنظار تصوب إليه، وبدأت التعليقات الهامسة في الانتشار داخل الأجواء المحيطة به، لكن تلك التعليقات لم تصبح مسموعة جريئة إلا بعد نزول هذا الرجل في إحدى المحطات.

وبمجرد نزوله افتتح أحد الركاب التعليقات قائلاً:-

- "يا سلام يا جدعان .. عيشنا وشفنا الناس راكبين المترو بكمامة ههههههه"

وكان هذا التعليق بمثابة شرارة البداية لطوفان من التعليقات الظريفة المتعاقبة ...

- "بكرة الناس تمشي باسطوانات أكسجين على ضهورهم ههههههه"

- "أو أنابيب بوتاجاز ههههه"

- "طب وليه منخليش كل واحد فينا يلبس كيس بلاستك في راسه هههههههه"

- "أو شراب فيليه ههههههههه"

واستمرت التعليقات إلى أن قال أحد الركاب ممن يظهر عليه التفلسف وادعاء الحكمة:- "مش عارف والله الناس ماسكة في الدنيا بإديها وسنانها كده ليه"

- "عندك حق يعني هي فيها إيه عدل يتحب ... ولا إيه يا عم الحج؟" قالها أحد الشباب الساخرين بصوت مرتفع موجهًا حديثه إلى الرجل العجوز الناعس فأجابه بعد أن انتفض مستيقظًا من غفوته "هه!! آه آه امال إيه" فضحك الجميع وابتسم الرجل العجوز.

واستطرد فرد آخر بعد أن توقف الجميع عن الضحك:-

- "صحيح والله دالموت علينا حق واللي بيموت بيستريح"

- "آه والله والموت بقى أهون من العيشة اللي احنا عايشينها"

- "يعني احنا هناخد زماننا وزمن غيرنا"

- "أمال فين التُكال على ربنا"

- "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"

- "أهو الوسوسة اللي احنا فيها دي هي اللي جابتلنا الأمراض"

- "صحيح والله" ...... هاتشوووووووو (وعطس هذا الراكب) "الحمد لله"

- "يرحمكم الله" "

- "يرحمكم الله"

- "يرحمكم الله"

- "يرحمنا ويرحمكم"

وأثناء قلب أحد مثقفي عربة المترو لصفحات الجريدة قرأ خبرًا لأحد الجالسين إلى جواره بصوت عال ...

- "وفاة أول حالة بمصر نتيجة الإصابة بإنفلونزا الخنازير"

- "يا ساتر يا رب، ودي فين الحالة دي؟"

- "في القاهرة"

- "اللهم احمينا واحفظنا"

- هاتشووووووووو (وعطس نفس الراكب مرة أخرى) ... "الحمد لله"

نظر أحد الركاب إلى هذا الرجل وسرح وظهر عليه ملامح الانزعاج، لكنه ما لبث أن هز رأسه وكأنه يطرد منها الأفكار الشريرة ثم قال له "يرحمكم الله". وعاد الانتباه مرة أخرى إلى الدائرة التي يجلس فيها المثقفون مقتنوا الجرائد.

- "إنما هو المرض ده بينتشر بسرعة"

- "آه طبعًا. دا بيقولك إن واحد بس حامل للعدوى في عربية زي اللي احنا راكبينها دي ممكن يعدي كل ركابها"

- هاتشووووووووووووو (وعطس الراكب نفسه للمرة الثالثة) "الحمد لله"

لكن هذه المرة لم يرد عليه أحد وتحولت أنظار الجميع إليه، وتحولت النظرات المصوبة إليه تدريجيًا من نظرات ود إلى نظرات عادية بلا مشاعر إلى نظرات شك إلى نظرات اتهام ... هاتشووووووووو (وجاءت العطسة الرابعة)، وعندها بدأ بعض الركاب في وضع أيديهم على أنوفهم وأفواههم وبدأ بعض آخر في إخراج مناديل ورقية ليضعوها على أنوفهم وأفواههم وبدأ الجميع رغم تكدس الركاب في الابتعاد عن المحيط الذي يقف فيه "الرجل الذي عطس" إلا أنهم فوجئوا بعطسة أخرى قادمة من رجل آخر من مكان آخر داخل العربة، وهنا أصيب الجميع بالهلع وزاغت الأعين وشعروا بالمحاصرة.

وتستمر العطسات على مدار محطتين متتاليتين بالشكل نفسه دون تغير، أما شكل العربة ووضعها فهو الذي تغير كثيرًا، فقد أصبحت دونًا عن باقي عربات القطار شبه خالية من الركاب. وفي تلك الأثناء ومنذ البداية، كان أحد الركاب ممن يظهر عليهم الحكمة الفطرية يتابع الأحداث المتلاحقة ويبتسم لما يراه من ردود فعل تجاه الأحداث، وعندما أصبح أحد المقاعد خاليًا نتيجة هجرة أهل العربة إلى العربات الأخرى هرع إليه وجلس ثم ضحك بصوت عال مسموع وهو يخرج منديلاً قماشيًا ليضعه على فمه وأنفه هو الآخر قائلاً: "صحيح يا ولاد ... الروح غالية".

الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

نملة


كانت ملكة متوجة على عرش مملكتها، مملكة النمل، وكان لها خدم وحشم ومجلس وحاشية وجند، فإذا أمرت تطاع، وإذا أشارت مجرد إشارة تحرك الجميع لتلبية رغباتها محاولين بشتى الطرق كسب رضاها وتوفير سبل الراحة والحماية لها.


أما هي، فرغم كل ما كانت تتنعم به إلا أنها لم تكن راضية عن وضعها وحالها رغم أنها الملكة، ملكة مملكة النمل، فقد كانت دائمًا تقول لنفسها وللمقربين إليها عندما يتعجبون من عدم رضاها بوضعها كملكة للنمل ومن عدم شعورها بالسعادة لذلك: "هل يجب على أن أشعر بالسعادة لمجرد أنني ملكة لمملكة الظل هذه، وما الفائدة من أن أكون ملكة لمملكة تعيش تحت الأرض في وقت يتنعم فيه غيرنا بالنور والهواء والأضواء، أليس لي الحق في أن أحلم بأن أكون فردًا من أفراد مملكة العمالقة والأضواء وأن أعيش حياتي فوق سطح الأرض؟ ولماذا لا أحلم حتى بأن أكون ملكة متوجة على عرش مملكة العمالقة آمر فيها وأنهي كما أفعل هنا؟ لماذا لا أحلم بكل هذا؟ فليجيبني من لديه الإجابة."


كانت الإجابة تأتيها دائمًا، لكنها لم تكن لتقتنع أبدًا بآراء الحكماء ممن حولها ولا لتصم أذنيها عن أصوات طموحاتها وآمالها وأحلامها. لقد كانت تستمع دائمًا إلى الآراء التي تقول لها إنها يجب أن تقنع بحياتها وألا تحلم بما يفوق قدراتها وإنها يجب أن تعلم أنها مهما بلغت مكانتها في مملكتها فإنها ستظل بالنسبة لعالم العمالقة مجرد "نملة" تسير بين الأقدام فلا يراها أحد ولا يشعر بها أي شخص، وإنها ولو كانت كما تقول ملكة لمملكة الظل فإن في تلك المملكة من الحب والتعاون ما قد لا تجده في أي مكان آخر أو أي مملكة أخرى. كانوا يقولون لها إن الطموح ليس عيبًا في حد ذاته، لكن يجب أن يكون للطموح إطار عقلي يحكمه حتى لا يتحول من أداة بناء وتشييد إلى أداة هدم وتخريب.


قالوا لها كل ذلك وأكثر، لكن صوت الطموح والحلم والأمل بداخلها غلب على صوت الحكمة والقناعة والرضا، فقررت ذات يوم الخروج من "مملكة الظل" إلى مملكة العمالقة والأضواء عازمة ألا تعود مرة أخرى إلى مملكتها ... وهو ما حدث بالفعل.


فبمجرد أن خطت أولى خطواتها خارج مملكتها بدأت تشعر بغربة شديدة لم تشعر بها من قبل على الإطلاق، إلا أن ما بداخلها من آمال وطموح جعلها لا تلتفت إلى أي شيء سوى ما تريد وما تحلم به. وبالفعل أخذت تخطو بعيدًا عن موطنها إلى موطن العمالقة وهي تنظر حولها وعيناها تلمع ببريق الطموح والأمل لدرجة أنها لم تعد تشعر بنفسها ولا بخطواتها ولا تعرف إلى أين تتجه. لقد غابت عن وعيها بما حولها وأخذت تنظر إلى الأضواء التي ملأت شوارع المدينة والخطوات العملاقة التي تسير ذهابًا أو إيابًا والسيارات التي تسير بسرعة كبيرة، وأخذت تستمع إلى الأصوات الصاخبة والضحكات والصرخات وتنصت إلى الهمسات وهي مستمتعة بكل ما ترى وتسمع. ودارت بها رأسها لتغيب أكثر وأكثر عن وعيها وتحلم .. أجل تحلم .. تحلم بنفسها وهي ملكة في هذا العالم تأمر فيه وتنهي مثلما كانت تفعل في مملكتها والكل يحاول قدر استطاعته تلبية رغباتها وإرضائها، تحلم بنفسها ملكة لمملكة العمالقة والأضواء، تحلم بنفسها وقد صارت أقوى من الجميع رغم ضآلة حجمها بالنسبة لهذا العالم الذي انتقلت إليه بعد أن أصبحت ملكة ومالكة له.


كانت خطواتها قد وصلت بها آنذاك إلى منتصف أحد أرصفة المدينة، وكان الحلم وقتها قد بلغ بها منتهاه لدرجة أنها لم تشعر بذلك الخطر القادم من بعيد. فقد شاهد طفل كان يسير مع أمه عند بداية هذا الرصيف قطة ترقد عند نهايته، فأراد أن يلعب معها، فأفلت يد أمه وأخذ يجري بأسرع ما لديه في اتجاه القطة .. ومن قبلها النملة.


أفاقت النملة الملكة على وقع خطوات الطفل الصغير وهو يجري في اتجاهها، فأصابها الفزع وحاولت النجاة بنفسها من الهلاك فاتجهت إلى اليمين، ثم إلى اليسار، والخطوات تقترب، فاتجهت إلى الأمام، ثم إلى الخلف، والخطوات تقترب إلى أن فقدت تمامًا السيطرة على حركاتها فأخذت تدور حول نفسها. كل ذلك والخطوات تقترب أكثر وأكثر إلى أن جاء موعد الخطوة الأخيرة في اتجاه النملة، ولسوء حظها كانت القدم الصغيرة العملاقة تتجه إلى موقعها تمامًا، وفي تلك اللحظة أصاب جسدها الشلل التام، فتسمرت مكانها وتعلقت عيناها بالقدم التي كانت تخطو في اتجاهها .. وبدأت قدم الطفل ترسل بظلالها على المكان الذي تقف فيه النملة بعد أن رفعها في الهواء ليخطو بها الخطوة الأخيرة، بدأت الدنيا تظلم أمام عينيها، أخذ الظلام يخيم على مكانها، أخذ يخيم على طموحاتها، أخذ يخيم على آمالها وأحلامها، وأخذ الظلام يزداد شيئًا فشيئًا إلى أن ساد الظلام التام ... وفي لحظة واحدة انتهى كل شيء.

السبت، 15 أغسطس 2009

مرآة الأحلام


تذكرها فجأة ، وشعر برغبة شديدة في النظر إليها، إلى مرآة الأحلام، إلى السر الذي اختصه به جده. فقد كان جده من محبي اقتناء التحف النادرة وكان من بين تلك التحف مرآة الأحلام التي كانت تجسد لمن ينظر إليها وهو يعرف سرها ما يحلم به في مستقبله، وكان جده يضعها في مكان خاص بالدور السفلي للبيت القديم، بيت العائلة الذي تربى فيه الجميع، وقبل وفاته بأيام أحضر حفيده الذي ارتبط به بشدة على انفراد وأخبره بالسر، سر مرآة الأحلام، ومن وقتها أخذ الحفيد يتردد من وقت لآخر على البيت القديم، حتى بعد أن أصبح مهجورًا وفرغ من ساكنيه، ليطمئن على مقتنيات جده وينظر إلى المرآة ليرى أحلامه متجسدة أمامه.

لم يكن هذا الشاب يدري السبب الذي أبعده عن الذهاب إلى البيت القديم والنظر في مرآة الأحلام كل تلك الفترة، فربما يكون قد شغلته رغبته في تحقيق أحلامه عن رغبته في رؤيتها داخل المرآة. لكن بمجرد أن تذكرها، وفي دقائق قليلة، كان قد بدل ثيابه واتجه إلى البيت القديم. وبمجرد أن فتح باب البيت أضاء جميع أنواره ثم اتجه إلى مكان المرآة على الفور دون أي تريث، وبحركات سريعة كان قد رفع غطاء وضعه هو بنفسه من قبل على المرآة وبدأ في تنظيف ما أهاله الزمن من غبار وأتربة على الأحلام ... عفوًا ... على مرآة الأحلام.

وبعد أن انتهى من تنظيفها وقف أمامها مغمضًا عينيه وكأنه يريد أن يضفي نوعًا من التشويق على الموقف قبل أن يفتح عينيه ليرى حلمًا جديدًا متجسدًا أمامه، ولكن بعد أن فتح عينيه حدثت مفاجأة لم يكن يتوقعها .... نظر إلى المرآة فلم ير إلا نفسه.

كان من الواضح أن المشهد كان مفاجئًا له وغريبًا عليه لأن الحلم الذي كان متشوقًا إلى رؤيته لم يظهر، وبعد لحظات من الذهول وانعدام رد الفعل بدأ ينظر يمينًا ويسارًا، ثم تحرك تجاه المرآة وبدأ ينظفها مرة أخرى بشتى الطرق، لكن كان من الواضح أنها أصبحت نظيفة ولا تحتاج إلى أي تنظيف آخر، ولكنه لم ييأس وظل يحاول بشتى الطرق وينقل المرآة من مكانها ثم يعيدها مرة أخرى والمشهد واحد لا يختلف، وبعد مرور دقائق – بل ساعات – يأس من محاولاته، فأغلق البيت القديم وعاد إلى منزله.

وفي اليوم التالي قرر أن يذهب مرة أخرى إلى هناك، فلربما كان لليوم الماضي تأثيرًا سلبيًا أبطل عمل المرآة، وبالفعل ذهب وفعل مثلما فعل في اليوم الأول وأكثر، غير أن الأمور لم تختلف كثيرًا إلى أن هزمه اليأس ليعود مرة أخرى إلى منزله، لكن كان بداخله قرار بأن يحاول مرة أخرى في اليوم التالي أملاً في عمل المرآة ورؤية حلمه أو أحلامه. وعندما عاد إلى منزله لم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير في أمر المرآة، فجلس في غرفة نومه، على طرف سريره، يفكر فيما حدث.

هل أصابت مرآة الأحلام مشكلة ما؟ سأل نفسه هذا السؤال لكنه قطع سؤاله بإجابة نافية؛ لا، لقد أكد لي جدي أن عمل تلك المرآة وسرها دائمان بدوامها. إذًا فماذا يحدث؟ لقد جربت تلك المرآة من قبل أكثر من مرة؛ لقد استخدمتها في بداية مرحلة المراهقة فرأيت فيها فتاة فاتنة الوجه ممشوقة القوام ذكية الملامح وكان هذا هو ما أحلم به في تلك الفترة بالفعل، كما استخدمتها بعد التخرج من الجامعة فرأيت نفسي في عمل محترم زرع بداخلي الأمل في مستقبل مزدهر وكان هذا أيضًا ما حلمت به في تلك الفترة، واستخدمتها بعد أن التحقت بالعمل فرأيت نفسي وسط زوجتي وأولادي في أسرة سعيدة مستقرة وكان هذا أقصى ما أحلم به في تلك الفترة، فماذا حدث للمرآة إذًا؟

توقف الشاب بعد أن سأل نفسه هذا السؤال لحظة عن التفكير وكأن ذكرياته عن أحلامه السابقة قد ذكرته بذكرياته عما آلت إليه تلك الأحلام. فالفتاة التي حلم بها ثم وجدها وأحبها تركته فجأة وبعد علاقة قوية استمرت فترة ليست بالقصيرة دون أية مقدمات أو أسباب، حتى أنها لم تكبد نفسها عناء الشرح وتوضيع وتبرير ما فعلته معه. أما العمل الذي التحق به وكان شديد السعادة به، فما أن بدأ يستقر بداخله ويعرف خباياه حتى فوجئ بطبيعة بيئة هذا العمل وما فيه من مجاملة ومحاباة وظلم وقتل للطموح والمواهب وإحباط وتثبيط للهمم. وأما الأسرة التي كانت أقصى أحلامه وأمانيه فقد ضاعت قبل أن تولد وذلك لضياع أهم عناصرها؛ الفتاة التي أحبها وحلم بها والظروف الاجتماعية غير المناسبة التي لا تساعد في بناء أسرة سعيدة.

وجد هذا الشاب نفسه يتجه دون إرادة منه إلى سؤال شديد القسوة عليه، لكن لا مفر منه؛ بماذا أحلم الآن؟ وبمجرد أن ترددت أصداء ذلك السؤال بداخله خارت قوى التفكير لديه وشل عقله، ولكن بعد أن وصل إلى قرار مهم؛ وهو أنه لن يتجه إلى مرآة الأحلام في اليوم التالي، ولا في أي يوم قريب قادم ....

آآآآآآآآآآآآه ... قالها وجسده ينهار منه مستويًا على سطح السرير، قالها وأخرج معها كل ما بداخله من حزن ويأس وألم وإحباط، قالها ثم صمت في وقت تعلقت فيه عيناه بسقف الحجرة ووضع كلتا يديه على رأسه، فقد علم وقتها فقط أن المشكلة ليست في المرآة، إنه لم ير أي شيء في مرآة الأحلام لأنه ببساطة لم يعد يحلم بأي شيء ......

الاثنين، 3 أغسطس 2009

الخلاص


كان اليوم عاديًا ككل الأيام التي تمر عليه، استيقظ في الصباح الباكر على صوت رنات المنبه الخاص به فأوقف رنينه لدقائق قليلة ونام، إلا أنه عاود ليصدر رناته المزعجة التي توقظ الميت من ثباته العميق مرة أخرى وكأنه يصر على إيقاظه فأوقف رنينه مرة أخرى وتكرر ذلك أكثر من مرة حتى استسلم في النهاية وقام من مرقده ثم ذهب إلى الحمام فغسل وجهه وتوضأ وصلى الصبح ثم بدل ثيابه واتجه إلى عمله.

ورغم قرب مكان العمل من منزله، إلا أنه كان يفضل دائمًا أن يركب أية مواصلة متوفرة في هذا الوقت من الصباح للاتجاه إلى هناك، وهذا ما حدث بالفعل، فقد استقل أول حافلة واتجه إلى عمله. وحتى يوم العمل كان ككل أيام العمل التي تمر عليه، يوم طويل ممل يشتاق إلى نهايته كما يشتاق الطفل الصغير إلى يوم العيد والحبيب إلى لقاء حبيبه. وعلى الرغم من أن كل ما سبق قد يكون مختلفًا بالنسبة لمن يقرأ تلك السطور، إلا أنه كان بالنسبة لذلك الرجل روتينًا يوميًا يمارسه كل يوم للدرجة التي تمكنه من ممارسة كل أنشطة يوم عمله دون حتى أن يركز فيها أو كما يقولون "وهو مغمض العينين".

وعلى الرغم من أنه قد اعتاد على الروتين اليومي للعمل وللحياة بوجه عام، إلا أنه كان ذلك اليوم غريب الأطوار للدرجة التي دفعته إلى الدخول في مناقشة حادة مع أحد زملائه ما لبثت أن تحولت إلى شبه شجار جعلته يغضب من زميله ويترك العمل بعد انتهاء موعده على الفور دون حتى أن يلقي التحية على أي من زملائه.

وبعد نزوله إلى الشارع قرر، ولأول مرة منذ فترة طويلة، أن يعود إلى منزله مشيًا على الأقدام، فقد راوده آنذاك شعور داخلي غريب تولدت عنه رغبة شديدة للسير في الهواء الطلق. قد يكون ما سيطر عليه وقتها هو شعورًا بالملل أو اليأس، شعورًا بتبلد المشاعر، بل بتبلد الحياة من حوله، والأصعب والأخطر من ذلك أنه قد يكون شعورًا بتبلد الحياة بداخله، بتبلد روحه. لقد شعر وقتها أنه لا يعرف، لا يعرف حتى ماهية ما لا يعرفه، لا يعرف طبيعة ما يدور حوله وبداخله ولا يفهمه، لا يعرف طبيعة مشاعره ولا طريقة تفكيره ولا يملك أية رؤية للواقع أو المستقبل أو حتى للماضي، لا يعرف حلولاً لمشكلاته التي لا يعرفها، لكن الشيء الوحيد الذي كان يدركه هو أن هناك شيء ينقصه وينقص حياته حتى ينتهي تبلدها وتمتلئ بالحيوية والبهجة والسعادة، لكن معرفته للأسف لا تكتمل أبدًا، حيث إنه لا يعرف حتى هذا الشيء الحيوي الذي ينقص حياته. إنه حين يفرح يشعر أن هناك شيء ينقصه وينقص تلك الفرحة، وحين يضحك يشعر أن ضحكته غير مكتملة ولا تخرج من القلب، وحين يحب يشعر أن المشاعر ناقصة وليست كما كان يتخيلها أو يراها في أفلام السينما أو يقرأ عنها في الروايات.

وفي طريقه إلى منزله ظل يفكر كثيرًا، إنه من الغريب أن حياته مستقرة، مستقرة جدًا، فهناك المنزل وهناك العمل وهناك الأصدقاء والعائلة، لكن دائمًا كان هناك شيء ينقص حياته ويكدر ذلك النقصان صفوها. قد يكون الاستقرار هو السبب؟ ربما، خاصة أن الاستقرار إذا زاد عن الحد انقلب إلى شعور بالرتابة والملل، لكن أيًا كان السبب فلا بد أن يجد ما ينقصه. قد يكون ما ينقصه هو التغيير؟ ربما، لكن من أين يأتي هذا التغيير وقد ضاقت الدنيا بأهلها وحاصرتهم في نطاق ضيق خانق يصعب معه التغيير. أين الحل إذًا؟ لقد كان في البداية لا يهتم بالبحث عن الحلول أو عن الشيء الذي ينقص حياته، أما الآن وقد بدأ انفعاله يتزايد وبدأت حياته تلف حبال الملل والضيق والحزن حول رقبته وبدأ يخسر من حوله نتيجة اكتئابه فلا بد وأن يبحث عن حل. أجل لا بد وأن يجد الحل.

فجأة شعر بقلبه يخفق بشدة ثم بقشعريرة في بدنه كله، وإذا بلسانه يتحرك ويقول "يا رب". وفجأة أيضًا أفاق من رحلة تفكيره الطويلة على صوت آلة تنبيه سيارة تتردد بشكل جنوني، وإذا به وقد وجد نفسه واقفًا في وسط طريق سريع، وإذا بسيارة منطلقة تجاهه بأقصى سرعة، ورغم ذهوله الشديد استطاع أن يميز بين العديد من الأصوات والمشاهد، بين صوت آلة التنبيه الجنونية وصوت صريخ عجلات السيارة وهي تحاول دون فائدة التشبث بالأرض ثم صوت ارتطام عنيف ومزيج من أصوات زجاج يتكسر وعظام تتهشم وشهقات ذهول واستغاثات متلهفة بستر الله ثم صوت جسده وهو يرتطم بالأرض. كما استطاع أن يميز وجه السائق المزعور وهو يسير بسرعته الجنونية تجاهه ثم الدنيا وهي تدور به وبجسده في الهواء ثم أوجه العديد من البشر التي بدأت بوجه واحد ثم تعاقبت الأوجه وتعاقبت الأصوات بين سائل عن حاله وسائل عن رقم الإسعاف وسائل رحمة الله. إلا أنه في غضون ذلك، وبمجرد أن استقر جسده على الأرض شعر براحة غريبة لم يشعر بها منذ طفولته، شعر بأن همومه وضيقه وأحزانه تتبخر من جسده ويحل بدلاً منه نسمات ملائكية باردة شجعته على أن يأخذ نفسًا طويلاً روى به جميع أجزاء جسده المتعطش للراحة والرحمة، شعر لأول مرة منذ أن ودع طفولته براحة تامة وسعادة كاملة لا ينقصها أي شيء، وكأنه قد وجد الخلاص من كل همومه وأحزانه وأعبائه. وفي الوقت الذي شعر فيه كل من حوله بالجزع والقلق عليه أخذ هو يقلب بصره بين وجوه الناس ويتنقل بينها ببساطة وسهولة عجيبة إلى أن تعلق بصره بأبواب السماء فشخصت عيناه وابتسم ابتسامة طفولية بريئة، ثم تحركت شفتاه بآخر كلمات له في الحياة "الحمد لله" وصمتت بعد ذلك إلى الأبد.

الأربعاء، 8 يوليو 2009

يد تذبح



كان المشهد خانقًا كالعادة، في هذا الوقت والتاريخ من العام الهجري وللمرة الثانية من كل عام يكون المشهد هكذا، أجسام متدافعة وحركات متسارعة وروائح تختلف ما بين زكية وكريهة وحقائب محمولة وأصوات صاخبة متداخلة. كانت هذه الليلة هي ليلة عيد الأضحى، وكان المكان هو محطة قطار في إحدى مدن الصعيد الكبرى، وكان سبب هذا الزحام الشديد الذي يحدث مرتين كل عام هجري في ليلتي عيد الفطر وعيد الأضحى هو عودة الكثير من أهل الصعيد الذين يعملون في مدن ومحافظات الوجه البحري والقاهرة والذين يقيمون هناك بشكل مؤقت - أو حتى هؤلاء الذين استقروا هناك – لقضاء أيام العيد في موطنهم الأصلي حتى لا تنقطع لهم عادة كما يرد في الأقوال الشعبية المأثورة.

ووسط كل هذا الصخب والزحام كان هناك طفل صغير قصير القامة نحيل الجسد يمضي بسرعة وخفة بين تلك الأجسام المتدافعة واضعًا ذيل جلبابه الواسع باهت اللون بين أسنانه الصغيرة، كاشفًا عن ساقين نحيلتين ضعيفتين، حاملاً في يده اليسرى وفوق كتفه الأيمن حقيبتين كبيرتين تكادا تطمسان ملامح جسده من كبر حجميهما وتخفياه عن الأعين. كان ذلك المشهد عجيب للغاية، حيث لم يكن ذلك التكوين الجسماني الصغير الضعيف يدل على أية قدرة على حمل أي شيء ولو حتى حقيبة صغيرة، بيد أنه كان من الواضح أن ذلك الطفل يحمل داخل جسده الواهن رجولة قوية كامنة وروح كروح النملة التي تساعدها على حمل أثقال تتخطى بكثير قدرة جسدها على الحمل والتحمل.

كان هذا الطفل يعمل شيالاً في محطة القطار، حيث كان يتيمًا وحيدًا بلا أب أو أم أو أهل وكان يقتات من ذلك العمل ويظل يعمل طوال النهار وفي آخر الليل ينام على أحد أرصفة القطار المهجورة، وقد كان يحتفي بتلك الليلة احتفاءً شديدًا لا لأنها ليلة العيد، حيث كانت تلك الليلة تشبه غيرها من الليالي في ظل ما يعانيه من وحدة، ولكن لوفرة العمل فيها وفي الأيام القليلة التي تسبقها.

واستطاع الطفل بعد مكافحة ومثابرة أن يصل بالحقائب إلى خارج المحطة وأن يضعها داخل السيارة التي سيستقلها صاحب تلك الحقائب لتصل به إلى موطنه الأصلي داخل إحدى قرى الصعيد الصغيرة التابعة لتلك المدينة. وبعد أن وضع الحقائب داخل السيارة اتجه إلى صاحب الحقائب وقال له: "أي خدمة تانية يا بيه؟" فنظر إليه الرجل مبتسمًا وقال له: "تشكر" ثم أعطاه ورقة بعشرة جنيهات قائلاً: "كل سنة وانت طيب."

لم يصدق الطفل عينيه حيث كان ذلك المبلغ مبلغًا كبيرًا لم يكن ليحلم أن يحصله ولو بعد يوم عمل كامل، فنظر إلى الرجل مبتسمًا وملامح الامتنان والسعادة والرضا تتراقص على وجهه، ثم ما لبس أن تركه وهو يردد: "تشكر يا بيه ... ربنا يخليك يا بيه ... ربنا يكرمك يا بيه ... ربنا يباركلك ....".

أحس الطفل أنه يحلق في السماء غائبًا عن الوعي بما حوله من زحام وأصوات مرتفعة وأنفاس ساخنة خانقة، كان كل ما يفعله هو الركض والقفز والرقص فرحًا وعينيه لا تبتعدان عن ورقة العشرة جنيهات التي في يده، ثم ما لبث أن توقف فجأة وكأنه تذكر شيئًا مهمًا يجب عليه أن يفعله، فرفع عينيه عن الورقة التي في يده ناظرًا إلى السماء حامدًا ربه على تلك النعمة التي أنعم بها عليه ثم حول نظره مرة أخرى إلى الورقة قائلاً: "اللهم لك الحمد والشكر."

وفي هذه اللحظة سمع الطفل وقع أقدام ثقيلة تخطو خلفه تجاهه ثم فوجئ بصفعة قوية على رقبته وسمع صوت أجش غليظ من خلفه يقول بسخرية لازعة قاسية: "كل ده قفا ياد!!" ثم أُتبع هذا القول بضحكات عالية مستفزة، وتخطى مصدر هذا الصوت الطفل فإذا به يتجسد في رجل طويل القامة عريض الأكتاف كبير الرأس يحمل في يده اليسرى حقيبة كبيرة. لم يتمكن الطفل من معرفة ملامح وجهه، حيث إن الرجل لم يقف بل فعل ما فعل ثم ذهب وهو يضحك بصوته العالي الغليظ المتحشرج.

فوجئ هذا الطفل بتلك الصفعة القوية التي لم يكن يعتقد أنه قد يصاب بها يومًا من الأيام، ومن هول المفاجأة عليه لم يحرك ساكنًا؛ تلقى الصفعة من الخلف ثم أخذا ينظر بعينين زائغتين إلى ظهر الرجل الذي صفعه بعد أن تجاوزه وأخذ ينظر إليه طويلاً وهو واقف كالتمثال لا يتحرك منه سوى حدقتا عيناه المتابعتين لسير الرجل حتى اختفى خلف أجسام البشر المتزاحمة المتلاصقة خارج محطة القطار.

بعد ما أفاق الطفل مما حدث له نظر حوله فشعر بأن كل الأعين التي تحيط به تنظر إليه وكأن الصوت القوي الذي نتج عن الصفعة قد نبه الجميع، واستطاع رغم حالته أن يميز من بين نظرات الناس إليه نظرات سخرية ونظرات شفقة ونظرات تعاطف. طأطأ الطفل رأسه غير قادر على أن يرفع عينيه مرة أخرى في وجه أحد، ثم ذهب وهو يجرجر خلفه ذيل جلبابه الطويل مصحوبًا بأذيال الخزي والمهانة.

اتجه الطفل مرة أخرى إلى داخل محطة القطار وحاول أن يستكمل عمله لكنه لم يستطع أن يحمل أي شيء، حيث انطفأت بداخله تلك الروح التي كانت تحمل عنه أي ثقل فأصبح جسده لا يقوى على حمل شيء يفوق قدرته الواهنة التي زادت وهنًا فوق وهن وضعفًا فوق ضعف بعد ما حدث له، وزادت عدم قدرته على حمل الحقائب مشاعر الخزي والمهانة التي اشتعلت بداخله فلم يشعر بنفسه إلا وهو يغادر ذلك الزحام إلى خارج المحطة، بل إلى خارج المدينة كلها.

كان الرجل الذي صفع الطفل يعمل موظفًا في إحدى الشركات الحكومية بالقاهرة، ولم يكن متزوجًا رغم تخطي عمره للثلاثين ربيعًا وكان يعيش مع مجموعة من أصدقائه في مسكن واحد. وقد اعتاد هذا الرجل كل عام أن يعود إلى موطنه الأصلي في إحدى قرى الصعيد في آخر أيام شهر رمضان ليقضيها مع أهله ثم يقضي عيد الفطر معهم ويعود مرة أخرى إلى عمله في القاهرة، ولكنه لم يعتد أن يذهب إلى قريته في عيد الأضحى حيث كان يفضل أن يقضيه مع أصدقائه في القاهرة، أما هذه المرة فقد قرر قضاء عيد الأضحى مع أهله في الصعيد لأن أمه كانت قد رجته أن يقضي معهم عيد الأضحى أيضًا في القرية، وبالمرة كي يذبح لها خروفًا كانت قد اشترته في بداية العام الهجري كي تذبحه في عيد الأضحى، وكانت أمه تعلم عنه خبرته وتمرسه في عملية الذبح. ولم يستطع أن يرفض طلب أمه وتوسلاتها فقرر أن يلبي دعوتها وأن يذهب ليقضي معها ومع أهله العيد، ويذبح الخروف!!

وبعد أن سافر ووصل إلى محطة القطار وفعل ما فعله مع الطفل اتجه إلى إحدى العربات الموجودة خارج المحطة والمتجهة إلى قريته، وظل طوال الطريق يضحك على ما فعله مع الطفل حتى لفت أنظار من حوله، إلا أنه لم يأبه بذلك وظل يضحك حتى وصل إلى بيته متجاهلاً أنظار الركاب المصوبة إليه.

اتجه الطفل بعد أن خرج من محطة القطار إلى إحدى القرى الصغيرة المجاورة لتلك المدينة، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بقليل. كان الطفل لا يزال تحت وقع الصدمة وكانت العديد من المشاعر تتصارع وتشتعل بداخله ولم يجد مما حوله ما يطفئ هذا اللهيب، لا شيء سوى الحقول المظلمة وأصوات الضفادع الآتية من بركة صغيرة قريبة وأصوات الصراصير التي تشبه دقات عقارب الساعة في انتظامها. لم يكن أمام الطفل سوى الهروب بعيدًا عن أعين الناس الساخرة والهروب مما يجيش بداخله من مشاعر ملتهبة، ولم يجد وسيلة للهروب خير من النوم، فأصدر اللاوعي عنده أمرًا لوعيه بالنوم فشعر بأن هموم الدنيا كلها التي سقطت فوق رأسه فجأة بعد ما حدث له تثقل رأسه وتغلق أجفانه بقوة، ونظر حوله فوجد في الحقل الذي يمشي داخله "دكة" منصوبة أسفل شجرة كبيرة فاتجه إليها ونام.

وصل الرجل إلى منزله ليجد أمه التي جفاها النوم شوقًا إليه في استقباله، أما إخوته فكانوا قد ناموا. وعندما عرضت عليه أمه أن تحضر له العشاء رفض ذلك قائلاً أنه يريد أن يغرق في ثبات عميق، إلا أنه لم يغمض له جفن قبل أن يحكي لها على ما كان من أمر الطفل وما فعله معه فضحكت أمه وظل هو يضحك حتى غلبه النعاس ونام. وفي الصباح قام مبكرًا فوجد أخوته قد استيقظوا من نومهم قبله فسلم عليهم وهنأهم بالعيد، ورأى أنه ليس هناك ما هو أفضل من أن يقال في صباح هذا العيد سوى قصته مع الطفل فحكى القصة وضحك الجميع، ثم قام فاغتسل ولبس أفضل الثياب واتجه مع إخوته إلى المسجد الجامع لصلاة العيد.

لم يشعر الطفل بعد أن دخل في غيبوبة الهروب التي أصابته – والمسماة بالنوم – إلا بأصوات التكبير الآتية من المسجد الجامع بالقرية التي هرب إليها تخترق مسامعه، فقام من نومه وأخذ يمشي بلا هدف إلى أن وصل إلى مجرى النيل القريب من تلك القرية، فجلس على شاطئه وأخذ يفكر فيما حدث له وينظر فيما حوله، إلى أن شعر برغبة شديدة في أن ينظر إلى نفسه، فاتجه إلى المياه ونظر إليها ليرى أمامه طفلاً نحيلاً واهن الجسد، فشعر بحزن شديد وكأنه يعرف حقيقته لأول مرة وقد فوجئ بشكله، حيث لم يكن ينظر إلى نفسه من قبل بعينيه قدر ما كان ينظر لنفسه بروح الرجل التي كانت تدب في جميع أوصاله وتعينه على ممارسة عمله وحياته، شعر الطفل في هذه اللحظة بأن رجولته قد تحطمت على يد هذا الرجل، تلك الرجولة التي لا يملك سواها في حياته، فأحس بحزن شديد يزحف داخل خلجات نفسه ودمعت عيناه وسقطت منه دمعة في الماء فنتج عنها دوامات ودوائر صغيرة هزت صورته التي رُسمت على صفحة ماء النيل أمام عينيه فازداد حزنه أكثر وأكثر، ثم رفع رأسه لينظر فيما حوله، فأحس بأن كل ما حوله من شجر وحجر يسخر منه وينظر إليه باستهزاء وسخرية، شعر بأن كل ما حوله ينظر إليه كطفل صغير، رأى الأشجار تشير إليه بأغصانها وتقول "هذا هو الطفل الذي ضرب على قفاه"، والسحب في السماء تخرج له ألسنتها وتقول له "أكنت تظن أنك رجل؟!!"، والحجارة تبتسم بسخرية وتقول له "إنك لست إلا طفل صغير يلهو في الطين مع باقي الأطفال ويبلل مرقده حين ينام". وجد كل ما حوله يعيره ويسخر منه إلا شيء واحد؛ نهر النيل، حيث شعر الطفل آنذاك بأنه يفتح له أحضانه في ترحاب وكأنه أب له يحنو عليه ويهدئ من روعه، حينئذٍ لم يفكر الطفل كثيرًا، فلملم بقايا مشاعره المشروخة ورجولته الصغيرة المحطمة وكل ما لديه من ثروة تتمثل في ورقة بعشرة جنيهات، ودون أدنى تفكير قفز في ماء النيل واستسلم له وغاص في أعماق أحضانه الحانية.

في تلك اللحظات كان الرجل قد عاد من المسجد الجامع وذهب إلى بيته ليجد جميع أدوات وأجواء الذبح جاهزة، ولم يصبر أو ينتظر كثيرًا، ونسي أنه لم يبدل بعد ملابس الصلاة فالتقم السكين، وفي لحظات قليلة وخطوات أقل كان قد ذبح الخروف بيد ثابته لا تعرف التردد وكأنها قد خُلقت كي تذبح!!!

وفي اليوم الثاني من أيام العيد، كان بعض الأطفال يلعبون ويلهون على شاطئ النيل فوجدوا جسد طفل صغير يتهادى إلى الشاطئ، وكأن الأمواج الضعيفة للنهر العظيم هي يد أب تهدهد جسد ابنها وتوصله برفق إلى بر الأمان بعد أن أغدق الأب عليه وملأ جسده من حنان افتقده على وجه الأرض ليجده في أعماق النيل، وليرحمه من خزي أُلحق به دون أدنى سبب ودون وجه حق.

أما الرجل فقد أمضى إجازته السعيدة مع أهله ولم ينس أن يحكي قصته مع الطفل لكل من يراه من أهل قريته، وعندما اتجه إلى القاهرة لم ينس أيضًا أن يحكي لأصدقائه أمر الطفل وأخذ كل يوم يحكي قصة الطفل ويضحك، ويتندر بها ويضحك، ويتسامر ويضحك، ويسرد ويضحك، ويحلل ويضحك، وبعد أن ينتهي يدخل في آخر الليل إلى فراشه لينام هادئ البال مطمئن النفس باسم الثغر!!!

الثلاثاء، 23 يونيو 2009

النظرة الثانية


كان المشهد متكررًا ومألوفًا لكل منهما، فقد شاهداه كثيرًا من قبل في الأفلام والمسلسلات والإعلانات التليفزيونية وقرآه في الروايات، لكن لم يكن أي منهما يؤمن به أو بتأثيره على أبطاله إلى أن حدث ما حدث. ويتجسد المشهد في فتى يسير في جامعته وفتاة تسير هي الأخرى حاملة بعض الكتب والأوراق، وكل منهما يسرح بخواطره وأفكاره إلى أن يقع الصدام، فتتناثر الكتب على الأرض وتتطاير الأوراق في الهواء فينحني كل منهما بشكل تلقائي ليجمع الكتب والأوراق، وبشكل عفوي تتغير المشاهد أمام العيون إلى أن يحدث اللقاء ... لقاء العيون.

عندما وقعت عيناه على عينيها شعر بخفقة عجيبة في قلبه وكأنه قد انقبض ليصبح في مثل حجم حبة الذرة ثم انبسط بشكل سريع ليصبح في مثل حجم كرة كبيرة ضاخًا في جسده كميات كبيرة من الدماء نشرت السخونة في جميع أجزاء جسده. ما هذا التأثير؟ سأل نفسه هذا السؤال في لحظة لكن الوقت لم يسعفه ليجد الإجابة، فقد وقع تحت تأثير تلك العيون الحوراء، لقد كان هذا الفتى ممن يؤمنون بأن جمال الروح أهم من أي شيء وأن أكثر أعضاء الجسم عكسًا لطبيعة الروح هي العيون، أما الآن فقد تحول إيمانه إلى يقين، فها هي روحها تتجسد أمام عينيه في عينيها فيجدها روحًا حانية رقيقة مرحة قادرة على احتواء الدنيا بكل ما فيها من أشكال وألوان، أفراح وهموم وأحزان، روح قادرة على احتواء السموات والأرض ومن فيهن بكل بساطة وحب وتلقائية. شعر الفتى وعينيه ما زالت مصوبة إلى عيني الفتاة أنه قد قابلها من قبل، عرفها وعرفته أو ربما لم يقابلها لكنه كان دائمًا في بحث دؤوب عنها، ربما لحاجته إليها أو لاشتياقه لها، أيًا كان فهي أمامه الآن ينظر إلي عينيها ويستمتع بتأثيرهما.

لحظات قصيرة مرت عليه طويلة، أو ربما أرادها هو هكذا، ومع تلك اللحظات اجتاحت الآمال والأفكار خياله فاستسلم لها دون أدنى مقاومة. لقد رأى تلك الفتاة حبيبة له، ليس هذا فقط، لقد رآها زوجة له يعود من عمله فيجدها في انتظاره بالمنزل، وبمجرد أن يفتح الباب تهفو إليه وكأنها عصفور صغير قد عاد إليه أنيسه وشريكه بعد غياب يوم كامل يبحث فيه عن الرزق، فتستقبله بابتسامة طفولية سعيدة مرحة وتتعلق به تعلق الطفلة بأبيها، فيقبل رأسها ويرحب بها هو الآخر ثم يتركها ليبدل ملابسه ويعود ليجدها قد حضرت له العشاء وتظل تقدم له ما لذ وطاب وتطعمه بيديها وعندما ينتهيا من العشاء تتركه للحظات ثم تعود إليه مرة أخرى فتفرد رجلها ليضع رأسه عليها وما يلبث أن يقص عليها ما شهده في يومه من أحداث وضغوط ويسترسل في حديثه مخرجًا كل ما يشعر به من هموم تجول بصدره وكأن صدره قفص يحوي طيور سوداء مخيفة تفتحه هي بيديها الغضة طاردة كل ما بداخلها حتى يفرغ مرة أخرى من تلك الكائنات المريبة ويصبح ساكنًا هادئًا قادرًا على استقبال المزيد منها في يوم جديد.

لقد كان دائمًا يشعر بالوحدة رغم جميع من يحيطون به ويحبونه، لكنه ظل دائمًا يخفي وجهًا آخر له عن عيون الناس، جميع الناس. كان الجميع يرون فيه الرجل القوي القادر على احتواء الجميع ومواجهة جميع مرارات الحياة وصعوباتها دون أن يكل أو يمل، لكنه ظل دائمًا يخفي بداخله تكوينه الحقيقي، ذلك الإنسان الضعيف رقيق المشاعر والتكوين الذي يتأثر من أقل حدث يحدث حوله أو كلمة تقال له أو عنه أو عمن يحبهم، ذلك الإنسان الذي تسيل دموعه بداخله لأقل مشاعر حزن أو لأقل هم يصاب به. أما الآن فقد وجد مراده، وجد الشخص الذي لا يخجل منه أو من ظهور وجهه الآخر الضعيف أمامه، فيظهر أمامه مجردًا من أية أقنعة وكأنه يواجه نفسه ويخاطب ذاته.

كان يتحدث إليها ورأسه على رجلها، كان يتحدث وكلما استرسل في حديثه كلما شعر براحة أكبر إلى أن تتحول هذه الراحة إلى غفوة منه، وعندما تراه هكذا تضحك ضحكة عذبة توقظه من غفوته، ويضحك هو الآخر عندما يدرك ما حدث ويظلا يضحكان معًا، يضحكان طويلاً وتلمع أعينهما بدموع الحب.

أما هي فعندما وقعت عيناها أسيرة لعينيه الصافيتين تجسد لها دون أية مقدمات فارسًا للأحلام. لقد وجدت في عينيه رجلاً تتمناه وتحلم به أية فتاة، وتعجبت للحظة، فهل من الممكن أن يحدث ذلك التأثير لمجرد نظرة واحدة؟ هل يمكن للعيون أن يكون لها مثل ذلك التأثير؟ ولم تجد هي الأخرى الفرصة لتجيب على أسئلتها، فقد أسرتها عيونه وروحه فما لبثت هي الأخرى أن وقعت برضًا منها فريسة لأحلام اليقظة.

لقد كانت هي الأخرى تبحث منذ أمد بعيد عن رجل مختلف، رجل بمعنى الكلمة تعتمد عليه في كل شيء وفي كل تفصيلة صغيرة من تفاصيل حياتها، رجل قادر بنظرة من عينيه على أن يحتويها بكل مشاعرها وهمومها وأحزانها، يحتوي غضبها، يحتوي جنونها، يحتوي ضعفها، يحتوي غيرتها .... ويحتوي حبها. لقد كانت دائمًا تشعر – ويشعر كل من حولها – بضعفها فتبكي لأقل شيء ولا تتحمل أية كلمة من أي شخص وكان كثير ممن حولها يستغلون ذلك فيضغطون عليها ليشعروها بضعفها وحاجتها الدائمة إليهم وإلى وجودهم حولها. لم تكن حياتها مستقرة ولم تكن مقتنعة بكل من يحيطون بها من أصدقاء، وحتى أهلها فكانت تشعر بالوحدة المطلقة لكنها لم تكن قادرة على الاستغناء عنهم، وكان من الطبيعي أن تبحث باللاوعي عندها عن سكن لها، عن شخص قادر على أن يجمع شتاتها ويقوي من عزيمتها ومنها لتصبح قادرة على مواجهة الحياة والناس. لقد كانت تحلم منذ طفولتها وصباها بمكان يتحول فيه ضعفها إلى قوة، ولكنها لم تستطع أن تعثر عليه أو حتى أن تتخيله، أما في ذلك اليوم، وبعد تلك النظرة، وبعد أن سرحت بخيالها لتجد ذلك الفتى حبيبًا – بل زوجًا لها استطاعت ولأول مرة أن تتخيل ذلك المكان، لقد أدركت أن المكان الوحيد الذي تشعر فيه بقوتها هو بين يدي هذا الفتى.

لقد وصلت بخيالها إلى مشهد منزل الزوجية، فيعود الرجل (الفتى) من عمله فترنو إليه وتلقي بنفسها بين أحضانه الدافئة، لا تتركه حتى يبدل ملابسه فهي في حاجة شديدة إليه، وهو يرحب بذلك، وتظل تحكي له عما حدث لها في يومها، وما حدث لها عندما خرجت لتشتري بعض الأغراض للمنزل وعندما اتصلت بها إحدى صديقاتها القدامى وما قالته له، تشتكي اليه من الناس والحياة وتبكي، تبكي كثيرًا وتحكي، وتبكي أكثر وأكثر ثم تخرج من بين زراعيه فجأة وكأن خطبًا جللاً قد حدث، وتتوقف عن البكاء وتمسح دموعها السائلة على وجهها، لكن عينيها تظل ممتلئة بالدموع، فتسأله "انت بتحبني؟!" فينظر إليها نظرة عتاب وحب؛ عتاب على سؤالها، وحب يقطع دون شك ويجيب دون كلام عن السؤال، فتبادره بسؤال آخر وهي تبتسم هذه المرة "وبتحبني ليه بقى؟" فيبتسم هو الآخر ثم يجيبها "عشان بحب نفسي، وعمري ما قدرت أفرق بينك وبين نفسي." فتضحك وتبكي – لكن من السعادة هذه المرة – ثم تعود مرة أخرى إلى أحضانه لتنسى كل شيء إلا حبها وحبيبها.

أفاق كل منهما من تأثير النظرة الأولى فاعتدلا دون أن يجرؤ أي منهما على الحديث، فأخذت الفتاة كتبها وأوراقها، وهي لا تدري هل جمعتها كلها أم تركت بعضها على الأرض، ثم ذهبت وذهب، ولم يستطع أي منهما أن ينظر خلفه لينتهي اللقاء الأول فجأة كما بدأ.

عاد كل منهما إلى منزله بعد أن أمضو يومهما بالخارج، وبالمصادفة كان كل منهما يسكن في منزل تطل شرفته على البحر لكن في مكانين متباعدين، وبعد أن بدل كل منهما ملابسه وتناول غداءه وهو ساهم شارد يفكر قاما على الفور إلى شرفتيهما. كان الوقت وقت الغروب فشاهد كل منهما لهيب الشمس وهو ينطفئ في البحر مخلفًا ظلالاً رمادية كثيفة بين السماء والماء. وبعد الغروب بدقائق بدأت أضواء السماء تخبو شيئًا فشيئًا وكل منهما يتابع المشهد ثم نظرا إلى الأفق اللانهائي، إلى الخط الفاصل الذي يجمع ويفرق بين رمادية السماء عند منتهاها وزرقة البحر الداكنة معلنًا نهاية يوم شهد النظرة الأولى، وكل منهما يتوق قلبه وتتوق نفسه وروحه وشتى جوارحه إلى يوم جديد قد تولد فيه النظرة الثانية.

الثلاثاء، 16 يونيو 2009

الزائر


كان الرجل يشعر بألم لم يشعر به من قبل، فقد كان منذ صغره هزيلاً ضعيفًا لا يقوى على شيء، لكن كانت بداخله عزيمة قوية أعانته على بدء حياته واستكمالها بشكل طبيعي إلى أن تجاوز سنه الخمسين عامًا استطاع فيهم أن يكوّن أسرة من زوجة وأبناء وأحفاد. لكنه بعد ذلك دخل في صراع طويل مع المرض استمر لأكثر من خمسة أعوام زاد فيهم هزاله وضعفه خاصة بعد أن قضى المرض على تلك العزيمة التي أعانته على بناء حياته والاستمرار فيها. أما الآن فهو على فراشه وقد وصل إلى ذروة الألم ولا يستطيع من يحيطون بفراشه أن ينفعوه بشيء أو أن يخففوا ما يشعر به من ألم. وفي غمرة ألمه صرخ صرخة قوية أتبعها بقول لم يفهمه من حوله "انت فين؟!!" ولم يفهم هذا القول أحد سوى الزائر الذي كان في طريقه إليه وقتها، فدخل عليه وهو راقد بين فلذات أكباده فرآه الرجل، رآه وحده، وابتسم حين رآه، أما من حوله فلم يروا الزائر لكنهم شعروا بوجود فرد غريب عنهم داخل الحجرة. اقترب الزائر من الرجل ووقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وغادر الحجرة بعد أن فاضت روحه إلى بارئها. أصيبت الأسرة جميعها بحزن شديد، لكنهم ما لبثوا أن أشاعوا الخبر بين أقربائهم فجاء القريب والغريب فغسّلوا الرجل وكفّنوه ثم حملوه فوق الأعناق وواروه التراب.

وكان من ضمن من حملوا الرجل إلى مثواه الأخير فتى طويل رياضي الجسم مفتول العضلات يتمتع بصحة رائعة. كان هذا الفتى هو أحد جيران الرجل وكان يعيش في العقد الثالث من عمره، وعندما سمع بالخبر هرول إلى دار الرجل على الفور ليقدم ما يقدر عليه من المساعدة، فقد كان رغم بعده عن فرائض الدين والعبادات سباقًا في مساعدة من يحبهم في أفراحهم وأطراحهم. وبالفعل قدم كل ما يستطيع حتى انتهت مراسم الجنازة. وعندما عاد إلى منزله شعر ببعض التعب الذي ظن أنه من أثر ما بذله في هذا اليوم من مجهود، فاستأذن أهله ودخل إلى غرفته وإذا بهذا التعب يزيد وإذا به يفاجأ بالزائر داخل غرفته ففزع من ذلك وأراد أن يقول شيئًا، أن يسأل الزائر "انت مين؟ وعايز مني إيه؟" لكن صوته اختنق بداخله ومات قبل أن يولد، وأراد أن يصارع الزائر بما يملكه من قوة بدنية إلا أن الزائر استطاع أن يصرعه بنظرة واحدة من عينيه، ثم اقترب منه وهو على فراشه فوقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وقد فاضت روحه إلى بارئها. وعندما دخل عليه أحد أفراد أسرته فوجئ به لا ينطق أو يتحرك رغم محاولاته العديدة المستميتة لإيقاظه، فعلم ما في الأمر، ورغم عدم قدرته على تصديق ما حدث إلا أنه وجد نفسه يجري ويصرخ بأعلى صوته ليعلم كل من بالبيت والشارع والمنطقة كلها بالخبر. وفي ساعات قليلة حضر القريب والغريب فغسّلوه وكفّنوه وحملوه فوق الأعناق وواروه التراب.

أثر خبر موت الفتى على الجميع إلا أحد زملائه في العمل، كان هذا الرجل بطبعه محب للحياة وكاره للموت، وكان عندما يسمع بوفاة أحد الأقرباء أو الغرباء يتشاءم ويرفض حضور الجنازة أو الحديث عن الموت، كما كان دائمًا شديد الخوف على صحته، يذهب إلى الطبيب لمجرد شعوره بصداع، ويطرد أي من أفراد أسرته من المنزل إذا أصابته الأنفلونزا خوفًا من العدوى أو حتى يترك هو المنزل أطول فترة ممكنة حتى يعفي نفسه من المشادات مع زوجته، وينأى بنفسه عن المشكلات الأسرية التي قد تصيبه بصداع في رأسه يذهب على إثره إلى الطبيب!! عاش ذلك الرجل عمرًا مديدًا حتى تجاوز عمره الثمانين فمات عنه أباه وأمه وزوجته واثنين من أبنائه الثلاث، وكان ابنه الثالث رب أسرة شغلته أعباء الحياة فلم يكن يزور أباه إلا قليلاً، وفي يوم من الأيام لمح الرجل الزائر من شرفة منزله فأصيب بالهلع وجرى إلى باب المنزل فأغلقه بالترابيس والمتاريس وأغلق جميع النوافذ كي يحمي نفسه، إلا أن الزائر اخترق الباب دون أن يكسره أو حتى يفتحه ودخل على الرجل حجرته التي احتمى بها هي الأخرى، فوجد الرجل على الأرض وقد أصبحت قدماه لا تحملانه من شدة الفزع، فاقترب منه ووقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وقد فاضت روحه إلى بارئها. ولم يعلم أحد بوفاة الرجل إلى أن جاء إليه ابنه مصادفة بعد وفاته بثلاثة أيام، وعندما لم يفتح له أباه الباب شعر بالقلق وكان معه بالمصادفة نسخة من مفاتيح المنزل ففتح الباب وعلم ما في الأمر وأعلم الجميع به، فجاء القريب والغريب إلى الرجل فغسّلوه وكفّنوه وحملوه فوق الأعناق وواروه التراب.

وفي البيت المقابل كان اليوم مختلفًا، حيث ولدت أول طفلة لأهل هذا البيت بعد انتظار طويل دام أكثر من عشرة أعوام. كانت تلك الطفلة قرة عينيهما ولم يكتب لهما الله الإنجاب من بعدها، فعاشت في ظل أحضانهم الحانية الدافئة ودخلت في مراحل التعليم. كانت الطفلة تشعر بالسعادة في حياتها إلا أنها كانت دائمًا تحلم بما هو خير من ذلك، لم تكن كباقي زميلاتها تحلم بالأطفال والأمومة وفارس الأحلام بل كانت أحلامها مختلفة، كانت أحلامها تدور في فضاء أرض غير الأرض وسماء غير السماء، كانت تحلم بقصر تعيش فيه وخضرة تحيط بها وكؤوس تشرب منها وأجواء ليس فيها صيف ولا شتاء، كانت تحلم بالربيع الدائم. وفي يوم، وبعد أن أكملت الطفلة عامها الثاني عشر بأيام قليلة، إذا بالزائر يدخل عليها غرفتها وهي نائمة، وعندما شعرت به فتحت عينيها وابتسمت ابتسامة أضاءت لها الحجرة المظلمة، فكل ما شعرت به تجاه هذا الزائر هو أنه جاء ليأخذها إلى دنيا طالما حلمت بها، فاستسلمت له بسهولة وأسلم الزائر روحها إلى بارئها. ولأن البشر لا يعلمون الحكمة الإلهية الرحيمة فقد سخط أهلها على ما حدث، وتنوعت أقوالهم الصارخة الهلعة بين سؤال عن السبب واستصغار للعمر ودعاء على النفس، إلا أن كل ذلك لم يفدهم بشيء، فالأمر كان قد نفذ بالفعل، واضطروا في النهاية إلى الاستسلام بدلاً من التسليم فغسّلوها وكفّنوها وحملوها فوق الأعناق وواروها التراب.

ويظل الزائر يدور في الطرقات ويزور الديار، زيارات ليست بأمره ولا بأمر من يزورهم على اختلاف أعمارهم وأشكالهم ومصائرهم، زيارات مفاجئة لا تتقيد بمكان أو زمان، زيارات تزرع الخوف والجزع في قلوب والسعادة أو الحسرة في أرواح، زيارات تقرب البعيد وتبعد القريب، زيارات تعلن نهاية البداية وبداية اللانهاية.
وتستمر الحياة ..... وتستمر الزيارات .....

الأحد، 14 يونيو 2009

وصمت بداخله كل شيء


دقت أجراس الليل تعلن الرحيل، وبزغت خيوط الفجر تعلن الوصول، بدأت نسمات الفجر العليلة في الهبوب، رقيقة كالحرير، باردة كمياه البحر في صيف قائظ، مريحة كفراش وثير، بدأت الديوك في الصياح، وبدأت النجوم في الاختفاء، بينما ظل القمر منيرًا رغم النور الذي بدأ يظهر في السماء شيئًا فشيئًا فشيئًا. بدأ لون السماء يتغير ويتغير، وكلما تغير لون السماء زادت في الصفاء وتخلصت من بقعها السوداء وكأن الدنيا بدأت في خلع ثيابها السوداء، ثياب الحداد، ثياب الحزن، لاستقبال شروق شمس جديدة، شمس الأمل، شمس الحياة. بدأت الطيور تخرج من أعشاشها، تبحث عن رزقها، تطارد الأمل، تحلق في الآفاق، تغرد معلنة عن سعادتها، عن فرحتها بحريتها وتمتعها بجمال الطبيعة من حولها غير عابئة بما حولها.

لم تكن الطيور أثناء طيرانها تلاحظ هذه العيون المراقبة لها، لم تر هذا التأمل، لم تر هذا السكون وهذا الشرود. كان "حالِم" يراقب الطيور من شرفته، يراقب الطبيعة، يسرح بعينيه وخياله مع هذا الإبداع الإلهي الذي يتغلب على كل شيء بداخله، يتغلب على حزنه، على شروده، على ذكرياته ... الذكريات. كان حالم ينتظر شيئًا ما، كان يطارد خيوط النور في الآفاق باحثًا عن مصدرها، عن الشمس ... نعم إنه الشروق، بدأ قرص الشمس الأصفر المهيب في الصعود بسرعة أمام عينيه. لم يتمالك حالم نفسه فشعر بقشعريرة في جسده كله، ياله من جمال، ياله من مشهد مهيب.

بدأ قرص الشمس الأصفر الكبير يرتفع أكثر وأكثر، فجأة أحس حالم بأن قرص الشمس الذهبي انفجر أمام عينيه مصدرًا ضوءًا قويًا تغلغل داخل جسده، تغلغل داخل روحه، تغلغل داخل عقله، رجع به إلى الوراء قليلاً، إنها الذكريات ... إنه الشروق ... شروق الحب.
بدأ حالم في تذكر أحلى ما في الحياة، إنها "حياة" .. من أحب .. بدأ منذ ولادة حبه لها، إنها الذكريات ... بدأ حالم يتذكر أولى النظرات، وكيف شعر بهذه السخونة تنبعث من كل مكان بجسده حين رآها، كيف كان قلبه يخفق بشدة حينما تلتقي عينيه بعينيها، كيف كان لا يتمالك نفسه حين تتحدث معه برقة، وبمجرد ذهابها عنه يضع كفيه على رأسه ويظل يتابعها بعينيه حتى تغيب عن نظره، يقفز في الهواء، أو يضرب جبهته بكفه، أو يركل أي شيء أمامه متمنيًا أن يستطيع تجميع شجاعته في المرة القادمة كي يتمكن من مصارحتها بعشقه لها. إنه يتذكرها وهي تضحك، إنه يضحك الآن، كان لا يتمالك نفسه حينما تضحك أو تبتسم، فكان يضحك معها لمجرد شعوره بسعادتها، لمجرد رغبته في مشاركتها أي شيء، وكل شيء. لمعت عينا حالم، لمعة بلون الشمس الأصفر، إنها لمعة الحب في عيون لم تنم ليلة واحدة منذ أن ابتعدت عمن تحب. تحولت لمعة الحب إلى لمعة حزن، ولدت دمعة في عين حالم، كبرت هذه الدمعة حتى أحس بثقلها على جفنه، لكنه لم يسمح لها بالانطلاق، مسحها بيده واتجه إلى غرفته.

لم يكن أمام حالم ما يفعله الآن حيث صلى الفجر كعادته، إلا أنه لم يفته أن يصلي صلاة الضحى قبل أن يتجه إلى سريره، أراد حالم أن ينام، أن ينام كثيرًا، أراد أن يوقف سيل ذكرياته قبل أن تصل إلى حد الطوفان، لم يرد أن يغرق فيها، حاول الهروب وكان النوم خير وسيلة، ونام حالم، نام طويلاً ... طويلاً ... حتى استيقظ قبل صلاة العصر بوقت قصير، نهض من على سريره مسرعًا، ذهب إلى دورة المياه فتوضأ وخرج فصلى الظهر، وانتظر حتى صلاة العصر فصلاها وأتمها. اتجه حالم إلى الشرفة الواسعة، شرفته التي تقع في الدور الأخير من مبنى سكني ضخم يطل على نهر النيل مباشرة، جلس حالم وقام بتشغيل شريط كاسيت لأم كلثوم التي طالما عشقها منذ صغره، كانت الأغنية هي أغنية "بعيد عنك". نظر حالم إلى السماء وكانت شديدة الزرقة، إنها الزرقة نفسها التي اكتست بها السماء في يوم لم ولن ينساه حالم، بدأت الأغنية وبدأت معها الذكريات...

كان في يوم كهذا ينظر إلى معشوقته الثانية، السماء، التي تلونت يومها بالزرقة نفسها، كان ينظر إليها ويحلم، يحلم بالمستقبل، يحلم بالأسرة، يحلم بالأولاد والبنات، إلى أن اخترق أحلامه صوت سمعه وكأنه آت من بعيد، إنه يقترب وكأنه يسحبه إلى دنيا الواقع، ينزله من السماء إلى الأرض، كان الصوت هو صوت هاتف حالم المحمول، حيث جاءه الخبر المشئوم، حادث أصاب قلبه في أعز ما يملك، أصاب حياة، وجعلها طريحة الفراش في مستشفى على أطراف القاهرة. بدأت أم كلثوم في الغناء ولكنها لم تجد من يسمعها حيث غاص حالم وتعمق في بحر ذكرياته، وصلت الأمواج بحالم إلى لحظات أخرى، هذه اللحظات التي وقف فيها أمام المستشفى بعد أن علم خطورة حالة حياة، وقف في الفناء الفسيح أمام المستشفى وكانت السماء قد أظلمت.

كانت المستشفى خلف ظهره، وكانت الرؤية متسعة أمامه في هذا الفضاء الفسيح، لكنه لم يكن يرى أمامه سوى طريق طويل مظلم بلا نهاية، وسماء سوداء شاسعة أحسها في هذه اللحظات القليلة باردة، لم يكن يرى سوى مآذن مسجد بعيد، كانت المآذن منيرة متلألئة، كان المسجد هو الشيء الوحيد الراسخ والثابت على هذا الطريق الطويل، أحس حالم ببعض السكينة من هذا المشهد بعد أن غمره الظلام بالخوف، اغرورقت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى بيت الله فأخذ يدعوه آملاً أن يتقبل منه دعاءه.

أفاق حالم على صوت أم كلثوم وهي تقول: "لا نوم ولا دمع في عنيا .. مخلاش الفراق فيا" كانت هذه الكلمات بمثابة النَفَس الذي التقطه حالم قبل أن يعاود الغوص في بحر ذكرياته. كانت هي نفس السماء الزرقاء ونفس العينين المتطلعتين المتأملتين في أسرارها، جاء الخبر، انتهت حياة، إنتهت حياة حياة. وهنا انفجر صوت في أذني حالم ارتج معه جسده كله. كان هذا الصوت هو صوت النهاية، نهاية الوجه الأول من الأغنية، والوجه الأول من حياة حالم.

قام حالم بتغيير الوجه ثم انطلق مرة أخرى مع ذكرياته، إنه يقف الآن في المستشفى ينتظر ... ينتظر جسد حبيبته الذي طالما تمنى أن يحمل حبه وأحلامه ومستقبله، كانت قدميه ترتعش، كانت يديه الباردة ترتجف، لكن عينيه ظلت جامدة صافية من أية غيمة قد ينتج عنها قطرة من المطر، أما السماء فلم تكن صافية هذه المرة حيث شابها الكثير من الغيوم.

خرج الجسد محمولاً إلى المسجد لكن لم يصَلَّى عليه حيث كان وقت صلاة المغرب قد حان، صلى الجميع صلاة المغرب وانتظروا أن يصلوا عليها، على حياة، التفتت عيني حالم الزائغتين في أنحاء المسجد إلى أن وقعت على النعش، وهنا انتابه شعور قاس عنيف، شعر حالم بأن كل شيء بداخله قد صمت، صمت لسانه، صمتت مشاعره، صمت خياله، صمت طموحه، حتى قلبه لم يعد يشعر بدقاته، انتهت حياة، لكن حياة حالم لم يقدر لها الله أن تنتهي.

صلى حالم على حياة، وأثناء الصلاة لم يتمكن من الحفاظ على صرامة عينيه وجمودها، فانفجر في البكاء حيث لم يعتد البكاء إلا بين يدي ربه، وهو يصلي، أفاق حالم مرة أخرى على صوت أم كلثوم "فين أشكيلك فين .. عندي كلام وكلام وحاجات .. فين دمعك يا عين .. بيريحني بكايا ساعات"، انطلقت دمعة من عيني حالم باحثة عن الراحة إلا أنها تاهت وجفت على وجهه قبل أن تصل به إلى الراحة المنشودة. ثم بدأت رحلة جديدة في طريق الذكريات...

لم يستطع حالم حتى بعد مرور أكثر من عامين أن ينسى هذه اللقطات، هذه اللحظات الأخيرة لجسد حياة على وجه الأرض، محمولاً على الأعناق، قبل أن يوارى التراب، لم يستطع حالم حمل الجثمان مع الآخرين، كان النعش أثقل عليه من الآخرين. حوى هذا النعش الكثير لحالم، حوى قلبه وروحه اللذين امتزجا بقلب وروح حبيبته، حمل طموحه ومشاعره وحبه، لم يستطع حالم أن ينسى مشهد القماش الأبيض وهو يوارى التراب، لقد فقد أعز ما لديه، لقد فقد كل ما لديه.
انطفأ الكاسيت مرة أخرى لكن لم يهتز معه جسد حالم هذه المرة، حيث إن ثقل أزمته وقوة حزنه وتدفق ذكرياته قد غلب على الجزء الخاص بحاسة السمع في عقله فما عاد يسمع إلا أصوات الماضي. في آخر الليل بعد أن عاد حالم إلى منزله بعد أن أخذ العزاء بنفسه، قرر أن يصلي ويدعو لمحبوبته وبالفعل صلى ودعا الله، وانتظر حتى صلى الفجر، تمنى أن يراها في منامه، تمنى أن يطمئن عليها، وبالفعل رآها وكأنها تطمئنه عليها، جاءت إليها ووضعت يدها على صدره فبردت من ناره، وهدأت من روعه، لكنه استيقظ من نومه الذي تمنى ألا ينتهي، لم يكن يعلم إن كانت هذه الرؤيا حقة أم من وحي خياله، لكن ما عرفه وما أحسه هو الراحة ... فقط الراحة، نام مرة أخرى باحثًا عن حبيبته ولو في أحلامه، لكنه لم يرها هذه المرة، استيقظ من نومه، شعر أن كل ما مر به مجرد كابوس لكنه لم يلبث أن أدرك الحقيقة، بدأ يتذكر كل شيء فيها، نظرتها، ابتسامتها، حبها، حنانها، كل شيء، فبدأ الحزن يملؤه مرة أخرى، كان حالم يعلم أنه يحارب الزمن، وأنه يحارب الذكريات، إنه يحارب في جميع الاتجاهات ... فهل يصبر على ذلك؟ فهل ينتصر؟ كان جواب أسئلته معلقًا بشيئين؛ الزمن والنسيان.

انتبه حالم هذه المرة على مشهد أثار في نفسه الكثير من الشجن، لقد سرقه الوقت واستحوذت عليه الذكريات، إنه غروب الشمس. بدأ حالم ينظر إلى السماء المحمرة وإلى كرة الشمس وهي تختفي خلف السراب، فأحس بالكثير من الأشجان بداخله، كانت الشمس تغيب وكأنها تغرق، لكن هذه المرة لم تكن تغرق في نهر النيل أو في بحر كبير، كانت تغرق في محيط لا نهائي من الظلال الرمادية الممتدة، كانت تغيب خلف ظلال المساكن البعيدة، خلف ظلال الأحلام المحطمة، كانت تغيب بين ظلال البشر، كانت تغيب خلف الرماد المتبقي من لهيب المراهقة .. الحب .. الشباب .. الحنين، كان اللون الأصفر يتحول إلى الحمرة، إلى قمة الاشتعال واللهب، ثم يصير إلى اللون الرمادي معلنًا النهاية، نهاية الشمس في حياة حالم، نهاية الأوج، أوج الحب والمراهقة، أوج المشاعر المرهفة، أوج الحس الراقي تجاه دنيا العشق، كان حالم يعلم أن الشمس سوف تشرق مرة أخرى، لكنه لم يكن يعرف إن كانت سوف تشرق عليه وهو فوق سطح الأرض أم بين جنباتها، لكنها سوف تشرق.....

الذين هم في صلاتهم خاشعون


وأخيرًا عدت إلى المنزل... لقد كان يومًا طويلاً وشاقًا بالفعل مر وكأنه عام كامل مليء بالأحداث. وبمجرد أن فتحت الباب ودخلت لم أفكر في الجلوس طويلاً أو الاستراحة، فقد اعتدت عندما أعود إلى المنزل مهما كانت درجة إرهاقي ألا أستريح قبل أن أنهي كل ما أرغب في عمله من أشياء، وأول وأهم هذه الأشياء الصلاة. إنني لم أستطع أن أصلي صلاة العشاء اليوم في المسجد، حيث انشغلت بالكثير من الأمور – شبه المهمة – التي حالت بيني وبين الصلاة. وبما أن وقت صلاة العشاء "ممتد" حتى صلاة الفجر فقد فضلت تأجيلها إلى حين عودتي إلى المنزل. بدلت ملابسي ثم توضأت وأحضرت سجادة الصلاة وحاولت تجميع تركيزي كي أتمكن من الوصول إلى الخشوع المطلوب في الصلاة، فقد كنت في حاجة ماسة إلى الصلاة، حيث كان لدي الكثير من الأعباء والمشكلات والأفكار التي لا يمكن أن أستريح منها إلا من خلال الصلاة. نويت الصلاة وبدأت بالفعل..


الله أكبر... بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم...


لقد كان يومًا شاقًا بالفعل منذ أن استيقظت في الصباح وأنا أشعر أنه سيكون كذلك، ومنذ أن خرجت من بيتي ورأيت جارتنا كثيرة الكلام هذه وأنا متشائم..


ولا الضالين .. آآآمين (اللهم لا تجعلنا من الضالين)


بسم الله الرحمن الرحيم * قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون.....


لقد كان العمل شاقًا اليوم ولكن ما زاد من تأثيره السيئ علي رئيسي في العمل، لقد كان اليوم مملاً وروتينيًا كعادته، ولا أعرف كيف تحكمت في نفسي ولم أرد عليه عندما اتهمني بالتقصير في بعض الأعمال، أنا المقصر أنا؟!!!! إنه يغيب عن العمل ويتأخر كثيرًا وفي النهاية كالعادة أكون أنا المقصر. يا إلهي. لن أسمح له في المرة القادمة بتوجيه مثل هذا الاتهام إلي.


الله أكبر...

سبحان ربي العظيم ....


وما زاد من مأساة هذا اليوم الممل الصعب أنني لم أحصل على أجر مناسب على العمل الحر الذي أمارسه بعد عملي الأساسي، كيف أحصل اليوم على خمسين جنيهًا فقط!! إنني أعترف أنني كنت أسعى طويلاً للحصول على أي عمل أمارسه بعد عملي الأساسي لزيادة دخلي دون فائدة إلى أن منَّ الله علي بهذا العمل، ولكن خمسون جنيه!!! مبلغ غير مناسب بالمرة.


سمع الله لمن حمده... ربنا ولك الحمد والشكر، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا ترضاه.


الله أكبر...

سبحان ربي الأعلى...


مع كل ما عانيته في يوم العمل الطويل اليوم إلا أنه من حسن حظي وجدت بعض الوقت لأمضيه مع أصدقائي، لقد قابلتهم في "وسط البلد" وأخذنا نمشي في الشوارع المزدحمة نضحك ونتسامر ونتحدث ونجتر ذكرياتنا الجميلة عن أيام الدراسة في مراحلها المختلفة وخاصة الجامعة، وعن أساتذتنا وأصدقائنا وما كان يحدث بيننا من مواقف ضاحكة رسمت السعادة على وجوهنا، لقد كانت بالفعل أيامًا رائعة لا تمحى من الذاكرة بعيدًا عما نعايشه الآن من أيام العمل الطويلة المرهقة والمسئوليات الملقاة على أعتاقنا والتفكير في المستقبل والسعي خلف لقمة العيش. لم يكن هناك ضرب في الظهر أو إيذاء متعمد أو محاولات لتسلق السلم الوظيفي من خلال التودد والتقرب إلى الرؤساء وعمل العلاقات المشبوهة مع الآخرين. كانت الضحكة تخرج من القلوب دون تفكير وبتلقائية شديدة ماحية معها أي أثر لأية هموم – إن وجدت – ومبشرة بغد أفضل وحياة سعيدة.


لقد أعجبني اليوم نقاشاتنا عن الواقع الذي نعايشه الآن والفرق بين الماضي والحاضر وتوقعاتنا للمستقبل والشكل الذي يمكن أن نصير إليه بعد عشرة أو عشرين عامًا من الآن. نعم، لقد ساهمت تلك الدقائق التي قضيتها مع أصدقائي في التخفيف من هموم العمل التي عانيت منها اليوم ولم يبق سوى بعض الهموم الأخرى التي لا أجد ما يمحيها سوى الصلاة...


الصلاة!!!!!!

يا إلهي!!!!في أي ركعة أنا الآن؟

أهي الرابعة أم أنني سهوت وصليت خمسًا؟!!

إنني لا أتذكر...


حسنًا، أيًا كانت فسوف أجلس للتشهد ثم أنهي الصلاة.


وبالفعل جلست للتشهد ثم سجدت سجدتي السهو – تلك السجدتان التان أصبحتا فرضًا أؤديه في كل صلاة – وسلمت.


بعد أن انتهيت من الصلاة قمت مسرعًا فطويت سجادة الصلاة وانطلقت... ولكن إلى أين؟ لم يكن لدي ما أسرع من أجله فقد انتهى اليوم ولم يبق إلا النوم... إنه لأمر عجيب... أسرع في الصلاة وأسرع في طي سجادة الصلاة وأنطلق بعيدًا عنها دون حتى أن يكون هناك هدف من وراء ذلك الإسراع. ومن الغريب أنه بعد انتهائي من الصلاة لم أشعر بانمحاء ما كنت أعانيه من هموم، تلك الهموم التي اعتقدت أنه لا يوجد ما يمحيها غير الصلاة... إنه حقًا لأمر عجيب!!! أليس لي الحق أن أتعجب؟!!!

الثلاثاء، 9 يونيو 2009

صورة جماعية كبيرة


في الأعوام الأخيرة لاحظت ظهور أشياء عديدة في حياتي لم أكن أعلمها أو أدري بوجودها من قبل، كل هذه الأشياء عرفتها بعد ظهورها حق المعرفة وعرفت طبيعتها وتعايشت معها .. عدا شيء واحد كنت أعرفه منذ صغري لكني لم أكن أتوقع أن أعرف طبيعته أو أن أتعايش معه، لم أكن أدري أن هذا الشيء هو حق يقين لا بد من معايشته حيث كان عقلي الصغير وحبي للدنيا يحولون دون أن أتصور هذا الحق أو أن أعايشه.


كنت أسمع منذ صغري عن الموت وكنت أسأل نفسي سؤالاً محيرًا. أنا أحب جدي وجدتي وأمي وأبي وأخوتي فماذا سأفعل إذا فقدت أحد هؤلاء الأشخاص وهل أستطيع تحمل ذلك؟ ... لا! هذا أمر بعيد – كما تصورته في هذا الوقت المبكر من الطفولة – والموت شيء نظري في حياتي حتى الآن فلم أفكر فيه؟ .... (وكأن الموت قد قُدِّر فقط على من لا أعرفه!) لم أكن أعلم في هذا الوقت أن الموت أقرب للإنسان من نفَسه الذي يدخله ويخرجه من وإلى صدره، وأن كل آت قريب مهما بعدت المسافة الزمنية بين الإنسان وبينه.


فوجئت بموت جدي – أبي الروحي – أكثر من تعلمت منه في حياتي .... بدأ الموت يتحول في حياتي إلى شيء عملي يتحقق ويتحول أمامي شيئًا فشيئًا إلى حقيقة واقعة. هزني هذا الحدث كثيرًا ولكن بفضل ما زرعه جدي فيّ قبل موته من إيمان وصله بالله عز وجل لم أنهار بل تعلمت من هذا الحدث الكثير فكان بمثابة البداية التي أعقبها الكثير من الأحداث المؤثرة في حياتي.


سنة تمر من الحياة ... الحياة التي علمت وقتها فقط أن لها مقابل لم آلفه من قبل ... وإذا بي أفقد جدتي التي كنت أعشقها منذ صغري أكثر من أمي فتأثرت كثيرًا لكن سألت الله الصبر وبالفعل والحمد لله أن ألهمني الله الصبر. وبمرور الوقت بدأت أسأل نفسي؛ ما هذا الشيء الذي يظهر فجأة ولا يختفي إلا مصاحبًا لاختفاء شخص من الأحباب أو حتى من غير الأحباب؟ ما هذا الشيء الذي أصبح وجوده في حياتي شيئًا أساسيًا أراه كل يوم في كل مكان فأسمع عن مقتل عدد في مكان ما وآخر في مكان آخر؟ كان الموت يعرض أمام عيني من قبل في كل مكان لكنه كان مهمشًا وغامضًا فلم أفكر فيه ولا في طبيعته إلا عندما أصاب قلبي في أعز أحبابي!!!

فجأة يموت جارنا الذي قابلته قبل موته بلحظات وكان عندها ماشيًا على قدميه في خير حال، وفجأة يموت أحد أقاربي وهو في ريعان شبابه، وفجأة يموت فلان، وفجأة يموت علان، إذًا فهذا الضيف المريب لا ياتي لزيارة الكبار والعجائز فقط بل يأتي للجميع في أي وقت وفي أي مكان. وتمر الأيام ويضيق صدري وأشعر بحزن شديد ناتج عن تراكم العديد من الأحداث، وإذا بي أشعر برغبتي في الموت. فأصبح هذا الشيء المخيف بالنسبة لي من قبل أملاً أتمنى تحقيقه حتى ولو لم أنطق بهذا الأمل أو أن أدعو الله به.


بدأت أشعر أن الموت شيء نسبي ليس له ميعاد ولا مكان ولا حدود إلا ما فرضه الله على عباده فيما يسمى بالقضاء، وبدأت صورة ما ترتسم في خيالي، فبدأت أتصور الحياة وكأنها صورة جماعية كبيرة تحوي أناس ذوي علاقة اجتماعية محددة أو غير محددة، هذه الصورة المكتملة العناصر لا تلبث أن تفقد فردًا من أفرادها فينقص شكل وبريق ومعنى هذه الصورة حتى إذا بدأ الجميع في التعود على الصورة في وضعها الجديد إذا بها تفقد فردًا آخر، وهكذا فردًا ... ففردًا ... ففردًا، حتى يشعر من تبقى في هذه الصورة بعدم قيمة هذا الإطار الذي جمعهم مع من يحبوا دون أن يحميهم، فيتمنوا اللحاق بهم، وهكذا تصبح الصورة فارغة من أهلها ...

والله أعلى وأعلم بما بعدها ...

بنظرة من عينيه تستريح


كثيرًا ما سألت نفسي عن الخصائص والسمات التي ينبغي أن تتوفر في الشخص الذي أتحدث معه وأشكو إليه ما سأشعر به من هم أو حزن كي أستريح. توارد إلى ذهني العديد من السمات، فأخذت أفندها وأنقحها لأصل إلى أهمها كي أهتدي إلى ذلك الإنسان الذي قد يحمل عني ما يثقل كاهلي من ضغوط نفسية أو تلك الإنسانة التي قد تشاركني ما أتعرض له من أعباء حياتية وهموم عاطفية. أخذت أفكر كثيرًا إلى أن اهتديت إلى اثنتين من تلك السمات تعد أهم الشروط التي توجد في الشخص المطلوب ألا وهما؛ فهمه لي وإحساسه بي. وفي هذا المقام يجب أن أخرج من نطاق الأنا لأعمم وصفي التالي لأهمية هاتين السمتين.




كثيرًا ما يحدث البعض إناسًا عما يعانوه في حياتهم معتقدين أن التخلص من هذه الهموم من خلال التحدث مع أي شخص أيًا كانت سماته سوف يفيدهم ويريحهم، لكنهم يُخرجون كل ما لديهم من ضغوط وأعباء نفسية دون الشعور بأية راحة وكأن شيئًا لم يكن. يكون السؤال آنذاك هو لماذا؟ لماذا لم أسترح بعد أن تخلصت من كل ما أحمله بداخلي من أسرار؟ ومن هذا السؤال ينبثق سؤال آخر، لماذا أستريح عند التحدث مع أشخاص بعينهم دون غيرهم؟ إن السر يكمن في مدى فهم الشخص الذي يتحدث إليه الإنسان له ومدى شعوره بما يكابده من آلام نفسية مما يؤثر بالتالي على إحساس هذا الإنسان بمدى اهتمام هذا الشخص بما يقول وتواصله معه.




عندما تشعر أن الشخص الذي تتحدث إليه يفهمك ويشعر بك وبما تقاسيه من هموم يتوفر أهم العناصر التي تريح الإنسان ألا وهو عنصر المشاركة النفسية والوجدانية، فيشعر الإنسان بالمساندة والدعم بل والاحتواء من قبل الشخص الآخر مما يرفع عن كاهله الكثير من الأعباء النفسية والعاطفية التي يشعر بها. فأحيانًا تتحدث مع شخص وتخبره عن جميع المشكلات التي تكمن بداخلك وتؤرقك ولا يعرفها الكثيرون، وبمجرد أن يستمع إلى كلامك ويتحدث إليك لا تجد لكل ما كنت تقاسيه أي أثر وكأنه يمحي بكلماته همومك وأحزانك مثلما تمحي أمواج البحر نقوش رمال الشاطئ. هل أخبرك بما هو أبعد من ذلك، قد تتحدث إلى شخص عن بعض المشكلات التي تواجهك في حياتك وعندما تنتهي من حديثك تشعر براحة عجيبة كالسحر دون حتى أن يتحدث إليك، فمجرد شعورك بفهمه لك وإحساسه بك واهتمامه بما تقول وتعاطفه معك يغنيك عن كلماته مما يشعرك بالراحة دون أن يتحدث إليك، فاستماعه إليك وحده يكفيك. هل أخبرك هذه المرة عما هو أبعد وأعمق من كل ما سبق. قد تجلس مع شخص تحبه وتستريح له فتشعر بالراحة النفسية دون أن يتحدث إليك بل ودون أن تتحدث أنت إليه. إن نظرة واحدة من عيني هذا الشخص إليك بما تحويه من مشاعر تعاطف وتفهم وإحساس وتواصل تكفيك. إن هذه النظرة هي ترياق كل ما تشعر به من هموم وأحزان، إن هذا الشخص وصل بما لديه من إحساس وتفهم لك وإلمام بخبايا ذاتك إلى درجة تغنيه عن الكلام، بل وتغنيك عن الكلام أيضًا. إنه يفهمك دون أن تتكلم ويشعر بك دون أن تشكو ويعالج مشكلاتك دون عناء، ومن أين يأتي العناء، وكيف يجتمع مع التفاهم والتواصل.




في هذه الحياة التي نحياها لا يجد الإنسان كثيرًا مثل هؤلاء الأشخاص، لأن التفاهم والتواصل أصبحا عملة نادرة يندر تواجدها بين البشر لما في هذه الحياة من سرعة صبغت جميع أركانها وأحالت الناس من محاولة تفهم من حولهم والإحساس بهم إلى الانكباب على مصالحهم الشخصية وتجاربهم الذاتية فأصبح الجميع يرغب في الحديث دون الاستماع، وإذا كان الجميع متحدث فمن المستمع إذًا؟ إذا وجد شخص ما مثل هذا الإنسان الذي لا يحتاج إلى كلماته كي يتواصل معه ويحتويه بنظرة من عينيه، فلا يجب عليه أن يفقده لأن معه راحته، فهو شخص يحتاج إليه وإلى دعمه، هو شخص يفهمه دون أن يتحدث ويشعر به دون أن يشكو أو يبوح. هو شخص بنظرة من عينيه يستريح.