الأحد، 14 يونيو 2009

وصمت بداخله كل شيء


دقت أجراس الليل تعلن الرحيل، وبزغت خيوط الفجر تعلن الوصول، بدأت نسمات الفجر العليلة في الهبوب، رقيقة كالحرير، باردة كمياه البحر في صيف قائظ، مريحة كفراش وثير، بدأت الديوك في الصياح، وبدأت النجوم في الاختفاء، بينما ظل القمر منيرًا رغم النور الذي بدأ يظهر في السماء شيئًا فشيئًا فشيئًا. بدأ لون السماء يتغير ويتغير، وكلما تغير لون السماء زادت في الصفاء وتخلصت من بقعها السوداء وكأن الدنيا بدأت في خلع ثيابها السوداء، ثياب الحداد، ثياب الحزن، لاستقبال شروق شمس جديدة، شمس الأمل، شمس الحياة. بدأت الطيور تخرج من أعشاشها، تبحث عن رزقها، تطارد الأمل، تحلق في الآفاق، تغرد معلنة عن سعادتها، عن فرحتها بحريتها وتمتعها بجمال الطبيعة من حولها غير عابئة بما حولها.

لم تكن الطيور أثناء طيرانها تلاحظ هذه العيون المراقبة لها، لم تر هذا التأمل، لم تر هذا السكون وهذا الشرود. كان "حالِم" يراقب الطيور من شرفته، يراقب الطبيعة، يسرح بعينيه وخياله مع هذا الإبداع الإلهي الذي يتغلب على كل شيء بداخله، يتغلب على حزنه، على شروده، على ذكرياته ... الذكريات. كان حالم ينتظر شيئًا ما، كان يطارد خيوط النور في الآفاق باحثًا عن مصدرها، عن الشمس ... نعم إنه الشروق، بدأ قرص الشمس الأصفر المهيب في الصعود بسرعة أمام عينيه. لم يتمالك حالم نفسه فشعر بقشعريرة في جسده كله، ياله من جمال، ياله من مشهد مهيب.

بدأ قرص الشمس الأصفر الكبير يرتفع أكثر وأكثر، فجأة أحس حالم بأن قرص الشمس الذهبي انفجر أمام عينيه مصدرًا ضوءًا قويًا تغلغل داخل جسده، تغلغل داخل روحه، تغلغل داخل عقله، رجع به إلى الوراء قليلاً، إنها الذكريات ... إنه الشروق ... شروق الحب.
بدأ حالم في تذكر أحلى ما في الحياة، إنها "حياة" .. من أحب .. بدأ منذ ولادة حبه لها، إنها الذكريات ... بدأ حالم يتذكر أولى النظرات، وكيف شعر بهذه السخونة تنبعث من كل مكان بجسده حين رآها، كيف كان قلبه يخفق بشدة حينما تلتقي عينيه بعينيها، كيف كان لا يتمالك نفسه حين تتحدث معه برقة، وبمجرد ذهابها عنه يضع كفيه على رأسه ويظل يتابعها بعينيه حتى تغيب عن نظره، يقفز في الهواء، أو يضرب جبهته بكفه، أو يركل أي شيء أمامه متمنيًا أن يستطيع تجميع شجاعته في المرة القادمة كي يتمكن من مصارحتها بعشقه لها. إنه يتذكرها وهي تضحك، إنه يضحك الآن، كان لا يتمالك نفسه حينما تضحك أو تبتسم، فكان يضحك معها لمجرد شعوره بسعادتها، لمجرد رغبته في مشاركتها أي شيء، وكل شيء. لمعت عينا حالم، لمعة بلون الشمس الأصفر، إنها لمعة الحب في عيون لم تنم ليلة واحدة منذ أن ابتعدت عمن تحب. تحولت لمعة الحب إلى لمعة حزن، ولدت دمعة في عين حالم، كبرت هذه الدمعة حتى أحس بثقلها على جفنه، لكنه لم يسمح لها بالانطلاق، مسحها بيده واتجه إلى غرفته.

لم يكن أمام حالم ما يفعله الآن حيث صلى الفجر كعادته، إلا أنه لم يفته أن يصلي صلاة الضحى قبل أن يتجه إلى سريره، أراد حالم أن ينام، أن ينام كثيرًا، أراد أن يوقف سيل ذكرياته قبل أن تصل إلى حد الطوفان، لم يرد أن يغرق فيها، حاول الهروب وكان النوم خير وسيلة، ونام حالم، نام طويلاً ... طويلاً ... حتى استيقظ قبل صلاة العصر بوقت قصير، نهض من على سريره مسرعًا، ذهب إلى دورة المياه فتوضأ وخرج فصلى الظهر، وانتظر حتى صلاة العصر فصلاها وأتمها. اتجه حالم إلى الشرفة الواسعة، شرفته التي تقع في الدور الأخير من مبنى سكني ضخم يطل على نهر النيل مباشرة، جلس حالم وقام بتشغيل شريط كاسيت لأم كلثوم التي طالما عشقها منذ صغره، كانت الأغنية هي أغنية "بعيد عنك". نظر حالم إلى السماء وكانت شديدة الزرقة، إنها الزرقة نفسها التي اكتست بها السماء في يوم لم ولن ينساه حالم، بدأت الأغنية وبدأت معها الذكريات...

كان في يوم كهذا ينظر إلى معشوقته الثانية، السماء، التي تلونت يومها بالزرقة نفسها، كان ينظر إليها ويحلم، يحلم بالمستقبل، يحلم بالأسرة، يحلم بالأولاد والبنات، إلى أن اخترق أحلامه صوت سمعه وكأنه آت من بعيد، إنه يقترب وكأنه يسحبه إلى دنيا الواقع، ينزله من السماء إلى الأرض، كان الصوت هو صوت هاتف حالم المحمول، حيث جاءه الخبر المشئوم، حادث أصاب قلبه في أعز ما يملك، أصاب حياة، وجعلها طريحة الفراش في مستشفى على أطراف القاهرة. بدأت أم كلثوم في الغناء ولكنها لم تجد من يسمعها حيث غاص حالم وتعمق في بحر ذكرياته، وصلت الأمواج بحالم إلى لحظات أخرى، هذه اللحظات التي وقف فيها أمام المستشفى بعد أن علم خطورة حالة حياة، وقف في الفناء الفسيح أمام المستشفى وكانت السماء قد أظلمت.

كانت المستشفى خلف ظهره، وكانت الرؤية متسعة أمامه في هذا الفضاء الفسيح، لكنه لم يكن يرى أمامه سوى طريق طويل مظلم بلا نهاية، وسماء سوداء شاسعة أحسها في هذه اللحظات القليلة باردة، لم يكن يرى سوى مآذن مسجد بعيد، كانت المآذن منيرة متلألئة، كان المسجد هو الشيء الوحيد الراسخ والثابت على هذا الطريق الطويل، أحس حالم ببعض السكينة من هذا المشهد بعد أن غمره الظلام بالخوف، اغرورقت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى بيت الله فأخذ يدعوه آملاً أن يتقبل منه دعاءه.

أفاق حالم على صوت أم كلثوم وهي تقول: "لا نوم ولا دمع في عنيا .. مخلاش الفراق فيا" كانت هذه الكلمات بمثابة النَفَس الذي التقطه حالم قبل أن يعاود الغوص في بحر ذكرياته. كانت هي نفس السماء الزرقاء ونفس العينين المتطلعتين المتأملتين في أسرارها، جاء الخبر، انتهت حياة، إنتهت حياة حياة. وهنا انفجر صوت في أذني حالم ارتج معه جسده كله. كان هذا الصوت هو صوت النهاية، نهاية الوجه الأول من الأغنية، والوجه الأول من حياة حالم.

قام حالم بتغيير الوجه ثم انطلق مرة أخرى مع ذكرياته، إنه يقف الآن في المستشفى ينتظر ... ينتظر جسد حبيبته الذي طالما تمنى أن يحمل حبه وأحلامه ومستقبله، كانت قدميه ترتعش، كانت يديه الباردة ترتجف، لكن عينيه ظلت جامدة صافية من أية غيمة قد ينتج عنها قطرة من المطر، أما السماء فلم تكن صافية هذه المرة حيث شابها الكثير من الغيوم.

خرج الجسد محمولاً إلى المسجد لكن لم يصَلَّى عليه حيث كان وقت صلاة المغرب قد حان، صلى الجميع صلاة المغرب وانتظروا أن يصلوا عليها، على حياة، التفتت عيني حالم الزائغتين في أنحاء المسجد إلى أن وقعت على النعش، وهنا انتابه شعور قاس عنيف، شعر حالم بأن كل شيء بداخله قد صمت، صمت لسانه، صمتت مشاعره، صمت خياله، صمت طموحه، حتى قلبه لم يعد يشعر بدقاته، انتهت حياة، لكن حياة حالم لم يقدر لها الله أن تنتهي.

صلى حالم على حياة، وأثناء الصلاة لم يتمكن من الحفاظ على صرامة عينيه وجمودها، فانفجر في البكاء حيث لم يعتد البكاء إلا بين يدي ربه، وهو يصلي، أفاق حالم مرة أخرى على صوت أم كلثوم "فين أشكيلك فين .. عندي كلام وكلام وحاجات .. فين دمعك يا عين .. بيريحني بكايا ساعات"، انطلقت دمعة من عيني حالم باحثة عن الراحة إلا أنها تاهت وجفت على وجهه قبل أن تصل به إلى الراحة المنشودة. ثم بدأت رحلة جديدة في طريق الذكريات...

لم يستطع حالم حتى بعد مرور أكثر من عامين أن ينسى هذه اللقطات، هذه اللحظات الأخيرة لجسد حياة على وجه الأرض، محمولاً على الأعناق، قبل أن يوارى التراب، لم يستطع حالم حمل الجثمان مع الآخرين، كان النعش أثقل عليه من الآخرين. حوى هذا النعش الكثير لحالم، حوى قلبه وروحه اللذين امتزجا بقلب وروح حبيبته، حمل طموحه ومشاعره وحبه، لم يستطع حالم أن ينسى مشهد القماش الأبيض وهو يوارى التراب، لقد فقد أعز ما لديه، لقد فقد كل ما لديه.
انطفأ الكاسيت مرة أخرى لكن لم يهتز معه جسد حالم هذه المرة، حيث إن ثقل أزمته وقوة حزنه وتدفق ذكرياته قد غلب على الجزء الخاص بحاسة السمع في عقله فما عاد يسمع إلا أصوات الماضي. في آخر الليل بعد أن عاد حالم إلى منزله بعد أن أخذ العزاء بنفسه، قرر أن يصلي ويدعو لمحبوبته وبالفعل صلى ودعا الله، وانتظر حتى صلى الفجر، تمنى أن يراها في منامه، تمنى أن يطمئن عليها، وبالفعل رآها وكأنها تطمئنه عليها، جاءت إليها ووضعت يدها على صدره فبردت من ناره، وهدأت من روعه، لكنه استيقظ من نومه الذي تمنى ألا ينتهي، لم يكن يعلم إن كانت هذه الرؤيا حقة أم من وحي خياله، لكن ما عرفه وما أحسه هو الراحة ... فقط الراحة، نام مرة أخرى باحثًا عن حبيبته ولو في أحلامه، لكنه لم يرها هذه المرة، استيقظ من نومه، شعر أن كل ما مر به مجرد كابوس لكنه لم يلبث أن أدرك الحقيقة، بدأ يتذكر كل شيء فيها، نظرتها، ابتسامتها، حبها، حنانها، كل شيء، فبدأ الحزن يملؤه مرة أخرى، كان حالم يعلم أنه يحارب الزمن، وأنه يحارب الذكريات، إنه يحارب في جميع الاتجاهات ... فهل يصبر على ذلك؟ فهل ينتصر؟ كان جواب أسئلته معلقًا بشيئين؛ الزمن والنسيان.

انتبه حالم هذه المرة على مشهد أثار في نفسه الكثير من الشجن، لقد سرقه الوقت واستحوذت عليه الذكريات، إنه غروب الشمس. بدأ حالم ينظر إلى السماء المحمرة وإلى كرة الشمس وهي تختفي خلف السراب، فأحس بالكثير من الأشجان بداخله، كانت الشمس تغيب وكأنها تغرق، لكن هذه المرة لم تكن تغرق في نهر النيل أو في بحر كبير، كانت تغرق في محيط لا نهائي من الظلال الرمادية الممتدة، كانت تغيب خلف ظلال المساكن البعيدة، خلف ظلال الأحلام المحطمة، كانت تغيب بين ظلال البشر، كانت تغيب خلف الرماد المتبقي من لهيب المراهقة .. الحب .. الشباب .. الحنين، كان اللون الأصفر يتحول إلى الحمرة، إلى قمة الاشتعال واللهب، ثم يصير إلى اللون الرمادي معلنًا النهاية، نهاية الشمس في حياة حالم، نهاية الأوج، أوج الحب والمراهقة، أوج المشاعر المرهفة، أوج الحس الراقي تجاه دنيا العشق، كان حالم يعلم أن الشمس سوف تشرق مرة أخرى، لكنه لم يكن يعرف إن كانت سوف تشرق عليه وهو فوق سطح الأرض أم بين جنباتها، لكنها سوف تشرق.....

هناك تعليق واحد: