
لم يكن يدري عندما خرج من منزله في المساء إلى أين يذهب، كل ما أحس به آنذاك أنه يحتاج إلى شيء ما لا بد له وأن يبحث عنه. وعندما نزل إلى شوارع المدينة المزدحمة المكتظة بالناس بدأ ينظر في جميع الاتجاهات، فلربما وجد ما يبحث عنه أو ما يدل على ذلك الشيء. واستمر في المشي والبحث طويلاً وهو يجوب المدينة، وأثناء بحثه أخذ يتفحص الناس من حوله، ولم يكن تركيزه في هذا الوقت منصبًا على هيئاتهم أو ملابسهم، بل كان تركيزه فقط على وجوههم وملامحهم وأفكارهم ومشاعرهم التي عكستها قسمات وجوههم بشكل لا يحتاج إلى أي تأويل أو تفسير.
وفي طريقه داخل المدينة رأى الكثير والكثير، حيث رأى عيون زائغة تبحث مثله عن شيء ما لا تعرفه ولكنها تدرك أنها تحتاجه، ورأى آذان لا تعي ما تسمع ولا تسمع ما تعي وقد انعكس تأثير ذلك على باقي قسمات وجوههم فغلب عليهم الشرود وعدم التركيز. وفي طريقه أيضًا رأى أفواه تتحرك باستمرار، تلوك الكلام مثلما تلوك أفواه الجمال الطعام؛ في أي وقت وكل وقت. رأى وجوه تضحك حتى البكاء، تعبّ من الضحك قدر ما تستطيع وكأنها تخاف أن تكون هذه النوبة هي آخر نوبات الضحك في حياتهم، ووجوه أخرى لا تحتاج إلى الضحك كي تبكي، ولا تحتاج إلى الدموع حتى يعرف من حولها أنها تبكي، إنها تبكي من داخلها وهذا هو أصعب أنواع البكاء. ووجوه أخرى تضحك ضحك يمتزج فيه الأمل بالخوف، وأخرى تضحك ضحك من لا يبالي بأي شيء وكل شيء، ووجوه تبتسم ابتسامة ثقة وكأنها وجدت ما تبحث عنه وما يبحث عنه الآخرون حتى أنه تمنى لو استطاع أن يذهب إليهم ويسألهم عن نتيجة بحثهم التي وصلت بهم إلى هذا القدر من الثقة ولكنه حين كان يحاول الاقتراب منهم ينظرون إليه نظرة تحوي الابتسامة نفسها وكأنهم يقولون له ابحث بنفسك عن الحل دون أن تستمع إلى الآخرين فما تبحث عنه يكمن داخلك، داخل قلبك وليس فيما تستقبله أذناك من كثير الكلام، وكأنها تقول له أيضًا عليك أن تصل بنفسك أولاً إلى إجابة لكل ما يدور بخلدك من أسئلة كي تجد الطريق ثم أن ترسخ قدميك عليه قبل أن تفتح أذناك إلى كلام الغير. والله في عونك وعوننا.
في هذه اللحظات وجد الرجل نفسه وقد تحولت أنظاره إلى السماء، فإذا بها وقد امتلأت بالغيوم، ولكنه لم ييأس، حيث كان يعلم أن القمر موجود في مكان ما خلف هذه الغيوم، ولكن بحثه الطويل وتطلعاته إلى السماء لم تسفر عن شيء حتى شعر باليأس وقرر أن يعود إلى منزله.
وفي المنزل اتخذ قرارًا آخر وهو التوقف عن التفكير والبحث قليلاً وكانت الوسيلة الوحيدة لذلك هو التلفاز، فقام بتشغيله وأخذ يتنقل بين قنواته المختلفة من قناة دينية إلى أخرى إخبارية إلى قناة ثقافية إلى رياضية إلى غنائية إلى قنوات الأفلام والمسلسلات، ولكن كل ذلك لم يقتل روح البحث التي ولدت بداخله في هذا اليوم ولا أمله في إيجاد ضالته المنشودة. وفي خطوات سريعة أوقف التلفاز واتجه إلى النافذة الكبيرة الموجودة في غرفته والتي لا يحجب السماء عنها أي شيء.
وأثناء نظره إلى السماء بدأ يسمع بعض الأصوات التي جاءت في شكل همس خفيض لم يمكنه من التعرف على ماهية هذه الأصوات. وما لبثت هذه الأصوات أن بدأت في الارتفاع حتى تمكن من تمييزها. إنها أصداء للأصوات التي سمعها اليوم في الشارع والتلفاز وغير ذلك من الأماكن والوسائل، ولم تكن هذه الأصوات هي حصاد أصوات اليوم فقط، بل وكل يوم. لم تكن هناك جمل متتابعة أو منظمة أو واضحة المعالم أو مختصة بمجال واحد أو موضوع واحد، بل جاءت الأصوات في شكل جمل متداخلة لمواضيع متشرذمة يشل تداخلها وتتابعها الفهم والتفكير ويخرج السامع عن تركيزه وصبره. لم يتوقف ارتفاع هذه الأصوات ولم يتوقف تداخلها حتى بدأ الرجل في الاضطراب والتوتر......
الأطفال والنساء يقتلون ..... أدعوكم للدخول معي إلى الجنة ..... سمعت آخر نكتة ..... دول عالم رغايين أوي ..... الولايات المتحدة تكيل بمكيالين ..... هنروح السينما النهاردة ..... الحياة بقت صعبة أوي ..... انت مبتصليش ليه، متصلي ..... الأموال العربية في البنوك الأمريكية تتعدى المليارات ..... أسلحة محرمة تستخدم ضد المدنيين ..... هو الماتش الساعة كام ..... الأسعار مولعة والحاجة غليت ..... فين أيام زمان ..... انقسام الصف العربي ..... معنا تعرف الطريق إلى الله ..... السهرة فين النهاردة ..... يمكن بكره يبأى أحسن ..... الأغنية دي جامدة جدًا ..... وبعدين بس ..... يا رب .....
وكلما مر الوقت كانت الأصوات ترتفع أكثر وتتداخل أكثر وتتشرذم أكثر، ومع ارتفاعها وتداخلها وتشرذمها يزيد توتر الرجل وتتزايد ضربات قلبه وسرعة تنفسه وترتعش أطرافه ....
ده إجرام ... اتباع السنة ... أغنية جامدة ... وبعدين ... عادي ... الروتين ... امتى بأه؟ ... مش قادر على نفسي ... هنحرر القدس ... عايز أموت ... بكره أحسن ... مكتئب ... سعيد أوي ... حلمي صغير والله ... الجهاد ... الفساد ... الملل ... تعبت أوي ... يااااارب ... الابتسام ... إنها بدعة ... سبعمائة قتيل ... البلد باظت ... الدين المعاملة ... وكل بدعة ضلالة ... السياسة ... الجهل ... الكورة ... الحب ... وكل ضلالة في النار ...
في النار ......
في النار.....
في النار...
.اسكتوووووووووووووووووووووووووووووا
قالها بأعلى صوته وبكل ما أوتي من قوة حتى سمع صداها من حوله مرات وسمع صداها بداخله آلاف المرات. وبعد أن قالها ساد الصمت من حوله، وبداخله، وبدأت دقات قلبه في العودة إلى طبيعتها وأنفاسه في الانتظام وأطرافه في السكون ثم نظر نظرة أخرى إلى السماء فوجد بعض النجوم وقد ظهرت من خلف الغيوم وانتظمت وكأنها ترسم له الطريق ووجد القمر وهو يشق طريقه من وراء الغيوم وكأنه يذيبها ليجد ضوءه طريقه إلى عيني الرجل. وعندما وصل ضوء القمر إلى عيني الرجل، شعر وكأن القمر قد اتخذ من عينيه نافذة يعبر بنوره من خلالها إلى روحه ويجري مع دمه في عروقه، فإذا بالنور وقد ملأ جميع خلجات نفسه، وإذا به يشعر براحة كبيرة وكأن نسمات الهواء الباردة التي هبت عليه آنذاك قد تغلغلت داخل جسده وروحه مع نور القمر لتطفئ نيران عقله، وشعر بأنه قد وجد الإجابة على جميع الأسئلة الملحة التي تدور بداخله ولم يتبق لديه سوى ترسيخ قدميه على الطريق. وكانت الإجابة هي الشيء الذي اجتهد كثيرًا في البحث عنه دون أن يعرف ماهيته؛ ألا وهو الحب، فقد بدأ يشعر بنسمات الحب الجميلة وقد ملأت كيانه. بدأ الرجل يشعر بحبه لله وللرسول وآله وصحبه وتابعيه، وبدأ يشعر بحبه لأهله وجيرانه وأصدقائه ولكل الناس، شعر الرجل بأنه قد وجد مبتغاه أخيرًا وأنه لم يبق له سوى التفكير في العبادات والمعاملات التي تترجم هذا الحب وتثبت قدميه على أول الطريق الصحيح، وكان أثناء تفكيره يشعر بقمة السعادة، ولكن هذه السعادة لم تستمر طويلاً ... حيث بدأ الهمس من جديد ... وغاب القمر خلف الغيوم السوداء ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق