
كان الرجل يشعر بألم لم يشعر به من قبل، فقد كان منذ صغره هزيلاً ضعيفًا لا يقوى على شيء، لكن كانت بداخله عزيمة قوية أعانته على بدء حياته واستكمالها بشكل طبيعي إلى أن تجاوز سنه الخمسين عامًا استطاع فيهم أن يكوّن أسرة من زوجة وأبناء وأحفاد. لكنه بعد ذلك دخل في صراع طويل مع المرض استمر لأكثر من خمسة أعوام زاد فيهم هزاله وضعفه خاصة بعد أن قضى المرض على تلك العزيمة التي أعانته على بناء حياته والاستمرار فيها. أما الآن فهو على فراشه وقد وصل إلى ذروة الألم ولا يستطيع من يحيطون بفراشه أن ينفعوه بشيء أو أن يخففوا ما يشعر به من ألم. وفي غمرة ألمه صرخ صرخة قوية أتبعها بقول لم يفهمه من حوله "انت فين؟!!" ولم يفهم هذا القول أحد سوى الزائر الذي كان في طريقه إليه وقتها، فدخل عليه وهو راقد بين فلذات أكباده فرآه الرجل، رآه وحده، وابتسم حين رآه، أما من حوله فلم يروا الزائر لكنهم شعروا بوجود فرد غريب عنهم داخل الحجرة. اقترب الزائر من الرجل ووقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وغادر الحجرة بعد أن فاضت روحه إلى بارئها. أصيبت الأسرة جميعها بحزن شديد، لكنهم ما لبثوا أن أشاعوا الخبر بين أقربائهم فجاء القريب والغريب فغسّلوا الرجل وكفّنوه ثم حملوه فوق الأعناق وواروه التراب.
وكان من ضمن من حملوا الرجل إلى مثواه الأخير فتى طويل رياضي الجسم مفتول العضلات يتمتع بصحة رائعة. كان هذا الفتى هو أحد جيران الرجل وكان يعيش في العقد الثالث من عمره، وعندما سمع بالخبر هرول إلى دار الرجل على الفور ليقدم ما يقدر عليه من المساعدة، فقد كان رغم بعده عن فرائض الدين والعبادات سباقًا في مساعدة من يحبهم في أفراحهم وأطراحهم. وبالفعل قدم كل ما يستطيع حتى انتهت مراسم الجنازة. وعندما عاد إلى منزله شعر ببعض التعب الذي ظن أنه من أثر ما بذله في هذا اليوم من مجهود، فاستأذن أهله ودخل إلى غرفته وإذا بهذا التعب يزيد وإذا به يفاجأ بالزائر داخل غرفته ففزع من ذلك وأراد أن يقول شيئًا، أن يسأل الزائر "انت مين؟ وعايز مني إيه؟" لكن صوته اختنق بداخله ومات قبل أن يولد، وأراد أن يصارع الزائر بما يملكه من قوة بدنية إلا أن الزائر استطاع أن يصرعه بنظرة واحدة من عينيه، ثم اقترب منه وهو على فراشه فوقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وقد فاضت روحه إلى بارئها. وعندما دخل عليه أحد أفراد أسرته فوجئ به لا ينطق أو يتحرك رغم محاولاته العديدة المستميتة لإيقاظه، فعلم ما في الأمر، ورغم عدم قدرته على تصديق ما حدث إلا أنه وجد نفسه يجري ويصرخ بأعلى صوته ليعلم كل من بالبيت والشارع والمنطقة كلها بالخبر. وفي ساعات قليلة حضر القريب والغريب فغسّلوه وكفّنوه وحملوه فوق الأعناق وواروه التراب.
أثر خبر موت الفتى على الجميع إلا أحد زملائه في العمل، كان هذا الرجل بطبعه محب للحياة وكاره للموت، وكان عندما يسمع بوفاة أحد الأقرباء أو الغرباء يتشاءم ويرفض حضور الجنازة أو الحديث عن الموت، كما كان دائمًا شديد الخوف على صحته، يذهب إلى الطبيب لمجرد شعوره بصداع، ويطرد أي من أفراد أسرته من المنزل إذا أصابته الأنفلونزا خوفًا من العدوى أو حتى يترك هو المنزل أطول فترة ممكنة حتى يعفي نفسه من المشادات مع زوجته، وينأى بنفسه عن المشكلات الأسرية التي قد تصيبه بصداع في رأسه يذهب على إثره إلى الطبيب!! عاش ذلك الرجل عمرًا مديدًا حتى تجاوز عمره الثمانين فمات عنه أباه وأمه وزوجته واثنين من أبنائه الثلاث، وكان ابنه الثالث رب أسرة شغلته أعباء الحياة فلم يكن يزور أباه إلا قليلاً، وفي يوم من الأيام لمح الرجل الزائر من شرفة منزله فأصيب بالهلع وجرى إلى باب المنزل فأغلقه بالترابيس والمتاريس وأغلق جميع النوافذ كي يحمي نفسه، إلا أن الزائر اخترق الباب دون أن يكسره أو حتى يفتحه ودخل على الرجل حجرته التي احتمى بها هي الأخرى، فوجد الرجل على الأرض وقد أصبحت قدماه لا تحملانه من شدة الفزع، فاقترب منه ووقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وقد فاضت روحه إلى بارئها. ولم يعلم أحد بوفاة الرجل إلى أن جاء إليه ابنه مصادفة بعد وفاته بثلاثة أيام، وعندما لم يفتح له أباه الباب شعر بالقلق وكان معه بالمصادفة نسخة من مفاتيح المنزل ففتح الباب وعلم ما في الأمر وأعلم الجميع به، فجاء القريب والغريب إلى الرجل فغسّلوه وكفّنوه وحملوه فوق الأعناق وواروه التراب.
وفي البيت المقابل كان اليوم مختلفًا، حيث ولدت أول طفلة لأهل هذا البيت بعد انتظار طويل دام أكثر من عشرة أعوام. كانت تلك الطفلة قرة عينيهما ولم يكتب لهما الله الإنجاب من بعدها، فعاشت في ظل أحضانهم الحانية الدافئة ودخلت في مراحل التعليم. كانت الطفلة تشعر بالسعادة في حياتها إلا أنها كانت دائمًا تحلم بما هو خير من ذلك، لم تكن كباقي زميلاتها تحلم بالأطفال والأمومة وفارس الأحلام بل كانت أحلامها مختلفة، كانت أحلامها تدور في فضاء أرض غير الأرض وسماء غير السماء، كانت تحلم بقصر تعيش فيه وخضرة تحيط بها وكؤوس تشرب منها وأجواء ليس فيها صيف ولا شتاء، كانت تحلم بالربيع الدائم. وفي يوم، وبعد أن أكملت الطفلة عامها الثاني عشر بأيام قليلة، إذا بالزائر يدخل عليها غرفتها وهي نائمة، وعندما شعرت به فتحت عينيها وابتسمت ابتسامة أضاءت لها الحجرة المظلمة، فكل ما شعرت به تجاه هذا الزائر هو أنه جاء ليأخذها إلى دنيا طالما حلمت بها، فاستسلمت له بسهولة وأسلم الزائر روحها إلى بارئها. ولأن البشر لا يعلمون الحكمة الإلهية الرحيمة فقد سخط أهلها على ما حدث، وتنوعت أقوالهم الصارخة الهلعة بين سؤال عن السبب واستصغار للعمر ودعاء على النفس، إلا أن كل ذلك لم يفدهم بشيء، فالأمر كان قد نفذ بالفعل، واضطروا في النهاية إلى الاستسلام بدلاً من التسليم فغسّلوها وكفّنوها وحملوها فوق الأعناق وواروها التراب.
ويظل الزائر يدور في الطرقات ويزور الديار، زيارات ليست بأمره ولا بأمر من يزورهم على اختلاف أعمارهم وأشكالهم ومصائرهم، زيارات مفاجئة لا تتقيد بمكان أو زمان، زيارات تزرع الخوف والجزع في قلوب والسعادة أو الحسرة في أرواح، زيارات تقرب البعيد وتبعد القريب، زيارات تعلن نهاية البداية وبداية اللانهاية.
وتستمر الحياة ..... وتستمر الزيارات .....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق