الثلاثاء، 23 يونيو 2009

النظرة الثانية


كان المشهد متكررًا ومألوفًا لكل منهما، فقد شاهداه كثيرًا من قبل في الأفلام والمسلسلات والإعلانات التليفزيونية وقرآه في الروايات، لكن لم يكن أي منهما يؤمن به أو بتأثيره على أبطاله إلى أن حدث ما حدث. ويتجسد المشهد في فتى يسير في جامعته وفتاة تسير هي الأخرى حاملة بعض الكتب والأوراق، وكل منهما يسرح بخواطره وأفكاره إلى أن يقع الصدام، فتتناثر الكتب على الأرض وتتطاير الأوراق في الهواء فينحني كل منهما بشكل تلقائي ليجمع الكتب والأوراق، وبشكل عفوي تتغير المشاهد أمام العيون إلى أن يحدث اللقاء ... لقاء العيون.

عندما وقعت عيناه على عينيها شعر بخفقة عجيبة في قلبه وكأنه قد انقبض ليصبح في مثل حجم حبة الذرة ثم انبسط بشكل سريع ليصبح في مثل حجم كرة كبيرة ضاخًا في جسده كميات كبيرة من الدماء نشرت السخونة في جميع أجزاء جسده. ما هذا التأثير؟ سأل نفسه هذا السؤال في لحظة لكن الوقت لم يسعفه ليجد الإجابة، فقد وقع تحت تأثير تلك العيون الحوراء، لقد كان هذا الفتى ممن يؤمنون بأن جمال الروح أهم من أي شيء وأن أكثر أعضاء الجسم عكسًا لطبيعة الروح هي العيون، أما الآن فقد تحول إيمانه إلى يقين، فها هي روحها تتجسد أمام عينيه في عينيها فيجدها روحًا حانية رقيقة مرحة قادرة على احتواء الدنيا بكل ما فيها من أشكال وألوان، أفراح وهموم وأحزان، روح قادرة على احتواء السموات والأرض ومن فيهن بكل بساطة وحب وتلقائية. شعر الفتى وعينيه ما زالت مصوبة إلى عيني الفتاة أنه قد قابلها من قبل، عرفها وعرفته أو ربما لم يقابلها لكنه كان دائمًا في بحث دؤوب عنها، ربما لحاجته إليها أو لاشتياقه لها، أيًا كان فهي أمامه الآن ينظر إلي عينيها ويستمتع بتأثيرهما.

لحظات قصيرة مرت عليه طويلة، أو ربما أرادها هو هكذا، ومع تلك اللحظات اجتاحت الآمال والأفكار خياله فاستسلم لها دون أدنى مقاومة. لقد رأى تلك الفتاة حبيبة له، ليس هذا فقط، لقد رآها زوجة له يعود من عمله فيجدها في انتظاره بالمنزل، وبمجرد أن يفتح الباب تهفو إليه وكأنها عصفور صغير قد عاد إليه أنيسه وشريكه بعد غياب يوم كامل يبحث فيه عن الرزق، فتستقبله بابتسامة طفولية سعيدة مرحة وتتعلق به تعلق الطفلة بأبيها، فيقبل رأسها ويرحب بها هو الآخر ثم يتركها ليبدل ملابسه ويعود ليجدها قد حضرت له العشاء وتظل تقدم له ما لذ وطاب وتطعمه بيديها وعندما ينتهيا من العشاء تتركه للحظات ثم تعود إليه مرة أخرى فتفرد رجلها ليضع رأسه عليها وما يلبث أن يقص عليها ما شهده في يومه من أحداث وضغوط ويسترسل في حديثه مخرجًا كل ما يشعر به من هموم تجول بصدره وكأن صدره قفص يحوي طيور سوداء مخيفة تفتحه هي بيديها الغضة طاردة كل ما بداخلها حتى يفرغ مرة أخرى من تلك الكائنات المريبة ويصبح ساكنًا هادئًا قادرًا على استقبال المزيد منها في يوم جديد.

لقد كان دائمًا يشعر بالوحدة رغم جميع من يحيطون به ويحبونه، لكنه ظل دائمًا يخفي وجهًا آخر له عن عيون الناس، جميع الناس. كان الجميع يرون فيه الرجل القوي القادر على احتواء الجميع ومواجهة جميع مرارات الحياة وصعوباتها دون أن يكل أو يمل، لكنه ظل دائمًا يخفي بداخله تكوينه الحقيقي، ذلك الإنسان الضعيف رقيق المشاعر والتكوين الذي يتأثر من أقل حدث يحدث حوله أو كلمة تقال له أو عنه أو عمن يحبهم، ذلك الإنسان الذي تسيل دموعه بداخله لأقل مشاعر حزن أو لأقل هم يصاب به. أما الآن فقد وجد مراده، وجد الشخص الذي لا يخجل منه أو من ظهور وجهه الآخر الضعيف أمامه، فيظهر أمامه مجردًا من أية أقنعة وكأنه يواجه نفسه ويخاطب ذاته.

كان يتحدث إليها ورأسه على رجلها، كان يتحدث وكلما استرسل في حديثه كلما شعر براحة أكبر إلى أن تتحول هذه الراحة إلى غفوة منه، وعندما تراه هكذا تضحك ضحكة عذبة توقظه من غفوته، ويضحك هو الآخر عندما يدرك ما حدث ويظلا يضحكان معًا، يضحكان طويلاً وتلمع أعينهما بدموع الحب.

أما هي فعندما وقعت عيناها أسيرة لعينيه الصافيتين تجسد لها دون أية مقدمات فارسًا للأحلام. لقد وجدت في عينيه رجلاً تتمناه وتحلم به أية فتاة، وتعجبت للحظة، فهل من الممكن أن يحدث ذلك التأثير لمجرد نظرة واحدة؟ هل يمكن للعيون أن يكون لها مثل ذلك التأثير؟ ولم تجد هي الأخرى الفرصة لتجيب على أسئلتها، فقد أسرتها عيونه وروحه فما لبثت هي الأخرى أن وقعت برضًا منها فريسة لأحلام اليقظة.

لقد كانت هي الأخرى تبحث منذ أمد بعيد عن رجل مختلف، رجل بمعنى الكلمة تعتمد عليه في كل شيء وفي كل تفصيلة صغيرة من تفاصيل حياتها، رجل قادر بنظرة من عينيه على أن يحتويها بكل مشاعرها وهمومها وأحزانها، يحتوي غضبها، يحتوي جنونها، يحتوي ضعفها، يحتوي غيرتها .... ويحتوي حبها. لقد كانت دائمًا تشعر – ويشعر كل من حولها – بضعفها فتبكي لأقل شيء ولا تتحمل أية كلمة من أي شخص وكان كثير ممن حولها يستغلون ذلك فيضغطون عليها ليشعروها بضعفها وحاجتها الدائمة إليهم وإلى وجودهم حولها. لم تكن حياتها مستقرة ولم تكن مقتنعة بكل من يحيطون بها من أصدقاء، وحتى أهلها فكانت تشعر بالوحدة المطلقة لكنها لم تكن قادرة على الاستغناء عنهم، وكان من الطبيعي أن تبحث باللاوعي عندها عن سكن لها، عن شخص قادر على أن يجمع شتاتها ويقوي من عزيمتها ومنها لتصبح قادرة على مواجهة الحياة والناس. لقد كانت تحلم منذ طفولتها وصباها بمكان يتحول فيه ضعفها إلى قوة، ولكنها لم تستطع أن تعثر عليه أو حتى أن تتخيله، أما في ذلك اليوم، وبعد تلك النظرة، وبعد أن سرحت بخيالها لتجد ذلك الفتى حبيبًا – بل زوجًا لها استطاعت ولأول مرة أن تتخيل ذلك المكان، لقد أدركت أن المكان الوحيد الذي تشعر فيه بقوتها هو بين يدي هذا الفتى.

لقد وصلت بخيالها إلى مشهد منزل الزوجية، فيعود الرجل (الفتى) من عمله فترنو إليه وتلقي بنفسها بين أحضانه الدافئة، لا تتركه حتى يبدل ملابسه فهي في حاجة شديدة إليه، وهو يرحب بذلك، وتظل تحكي له عما حدث لها في يومها، وما حدث لها عندما خرجت لتشتري بعض الأغراض للمنزل وعندما اتصلت بها إحدى صديقاتها القدامى وما قالته له، تشتكي اليه من الناس والحياة وتبكي، تبكي كثيرًا وتحكي، وتبكي أكثر وأكثر ثم تخرج من بين زراعيه فجأة وكأن خطبًا جللاً قد حدث، وتتوقف عن البكاء وتمسح دموعها السائلة على وجهها، لكن عينيها تظل ممتلئة بالدموع، فتسأله "انت بتحبني؟!" فينظر إليها نظرة عتاب وحب؛ عتاب على سؤالها، وحب يقطع دون شك ويجيب دون كلام عن السؤال، فتبادره بسؤال آخر وهي تبتسم هذه المرة "وبتحبني ليه بقى؟" فيبتسم هو الآخر ثم يجيبها "عشان بحب نفسي، وعمري ما قدرت أفرق بينك وبين نفسي." فتضحك وتبكي – لكن من السعادة هذه المرة – ثم تعود مرة أخرى إلى أحضانه لتنسى كل شيء إلا حبها وحبيبها.

أفاق كل منهما من تأثير النظرة الأولى فاعتدلا دون أن يجرؤ أي منهما على الحديث، فأخذت الفتاة كتبها وأوراقها، وهي لا تدري هل جمعتها كلها أم تركت بعضها على الأرض، ثم ذهبت وذهب، ولم يستطع أي منهما أن ينظر خلفه لينتهي اللقاء الأول فجأة كما بدأ.

عاد كل منهما إلى منزله بعد أن أمضو يومهما بالخارج، وبالمصادفة كان كل منهما يسكن في منزل تطل شرفته على البحر لكن في مكانين متباعدين، وبعد أن بدل كل منهما ملابسه وتناول غداءه وهو ساهم شارد يفكر قاما على الفور إلى شرفتيهما. كان الوقت وقت الغروب فشاهد كل منهما لهيب الشمس وهو ينطفئ في البحر مخلفًا ظلالاً رمادية كثيفة بين السماء والماء. وبعد الغروب بدقائق بدأت أضواء السماء تخبو شيئًا فشيئًا وكل منهما يتابع المشهد ثم نظرا إلى الأفق اللانهائي، إلى الخط الفاصل الذي يجمع ويفرق بين رمادية السماء عند منتهاها وزرقة البحر الداكنة معلنًا نهاية يوم شهد النظرة الأولى، وكل منهما يتوق قلبه وتتوق نفسه وروحه وشتى جوارحه إلى يوم جديد قد تولد فيه النظرة الثانية.

الثلاثاء، 16 يونيو 2009

الزائر


كان الرجل يشعر بألم لم يشعر به من قبل، فقد كان منذ صغره هزيلاً ضعيفًا لا يقوى على شيء، لكن كانت بداخله عزيمة قوية أعانته على بدء حياته واستكمالها بشكل طبيعي إلى أن تجاوز سنه الخمسين عامًا استطاع فيهم أن يكوّن أسرة من زوجة وأبناء وأحفاد. لكنه بعد ذلك دخل في صراع طويل مع المرض استمر لأكثر من خمسة أعوام زاد فيهم هزاله وضعفه خاصة بعد أن قضى المرض على تلك العزيمة التي أعانته على بناء حياته والاستمرار فيها. أما الآن فهو على فراشه وقد وصل إلى ذروة الألم ولا يستطيع من يحيطون بفراشه أن ينفعوه بشيء أو أن يخففوا ما يشعر به من ألم. وفي غمرة ألمه صرخ صرخة قوية أتبعها بقول لم يفهمه من حوله "انت فين؟!!" ولم يفهم هذا القول أحد سوى الزائر الذي كان في طريقه إليه وقتها، فدخل عليه وهو راقد بين فلذات أكباده فرآه الرجل، رآه وحده، وابتسم حين رآه، أما من حوله فلم يروا الزائر لكنهم شعروا بوجود فرد غريب عنهم داخل الحجرة. اقترب الزائر من الرجل ووقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وغادر الحجرة بعد أن فاضت روحه إلى بارئها. أصيبت الأسرة جميعها بحزن شديد، لكنهم ما لبثوا أن أشاعوا الخبر بين أقربائهم فجاء القريب والغريب فغسّلوا الرجل وكفّنوه ثم حملوه فوق الأعناق وواروه التراب.

وكان من ضمن من حملوا الرجل إلى مثواه الأخير فتى طويل رياضي الجسم مفتول العضلات يتمتع بصحة رائعة. كان هذا الفتى هو أحد جيران الرجل وكان يعيش في العقد الثالث من عمره، وعندما سمع بالخبر هرول إلى دار الرجل على الفور ليقدم ما يقدر عليه من المساعدة، فقد كان رغم بعده عن فرائض الدين والعبادات سباقًا في مساعدة من يحبهم في أفراحهم وأطراحهم. وبالفعل قدم كل ما يستطيع حتى انتهت مراسم الجنازة. وعندما عاد إلى منزله شعر ببعض التعب الذي ظن أنه من أثر ما بذله في هذا اليوم من مجهود، فاستأذن أهله ودخل إلى غرفته وإذا بهذا التعب يزيد وإذا به يفاجأ بالزائر داخل غرفته ففزع من ذلك وأراد أن يقول شيئًا، أن يسأل الزائر "انت مين؟ وعايز مني إيه؟" لكن صوته اختنق بداخله ومات قبل أن يولد، وأراد أن يصارع الزائر بما يملكه من قوة بدنية إلا أن الزائر استطاع أن يصرعه بنظرة واحدة من عينيه، ثم اقترب منه وهو على فراشه فوقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وقد فاضت روحه إلى بارئها. وعندما دخل عليه أحد أفراد أسرته فوجئ به لا ينطق أو يتحرك رغم محاولاته العديدة المستميتة لإيقاظه، فعلم ما في الأمر، ورغم عدم قدرته على تصديق ما حدث إلا أنه وجد نفسه يجري ويصرخ بأعلى صوته ليعلم كل من بالبيت والشارع والمنطقة كلها بالخبر. وفي ساعات قليلة حضر القريب والغريب فغسّلوه وكفّنوه وحملوه فوق الأعناق وواروه التراب.

أثر خبر موت الفتى على الجميع إلا أحد زملائه في العمل، كان هذا الرجل بطبعه محب للحياة وكاره للموت، وكان عندما يسمع بوفاة أحد الأقرباء أو الغرباء يتشاءم ويرفض حضور الجنازة أو الحديث عن الموت، كما كان دائمًا شديد الخوف على صحته، يذهب إلى الطبيب لمجرد شعوره بصداع، ويطرد أي من أفراد أسرته من المنزل إذا أصابته الأنفلونزا خوفًا من العدوى أو حتى يترك هو المنزل أطول فترة ممكنة حتى يعفي نفسه من المشادات مع زوجته، وينأى بنفسه عن المشكلات الأسرية التي قد تصيبه بصداع في رأسه يذهب على إثره إلى الطبيب!! عاش ذلك الرجل عمرًا مديدًا حتى تجاوز عمره الثمانين فمات عنه أباه وأمه وزوجته واثنين من أبنائه الثلاث، وكان ابنه الثالث رب أسرة شغلته أعباء الحياة فلم يكن يزور أباه إلا قليلاً، وفي يوم من الأيام لمح الرجل الزائر من شرفة منزله فأصيب بالهلع وجرى إلى باب المنزل فأغلقه بالترابيس والمتاريس وأغلق جميع النوافذ كي يحمي نفسه، إلا أن الزائر اخترق الباب دون أن يكسره أو حتى يفتحه ودخل على الرجل حجرته التي احتمى بها هي الأخرى، فوجد الرجل على الأرض وقد أصبحت قدماه لا تحملانه من شدة الفزع، فاقترب منه ووقف عند رأسه برهة من الزمن ثم تركه وقد فاضت روحه إلى بارئها. ولم يعلم أحد بوفاة الرجل إلى أن جاء إليه ابنه مصادفة بعد وفاته بثلاثة أيام، وعندما لم يفتح له أباه الباب شعر بالقلق وكان معه بالمصادفة نسخة من مفاتيح المنزل ففتح الباب وعلم ما في الأمر وأعلم الجميع به، فجاء القريب والغريب إلى الرجل فغسّلوه وكفّنوه وحملوه فوق الأعناق وواروه التراب.

وفي البيت المقابل كان اليوم مختلفًا، حيث ولدت أول طفلة لأهل هذا البيت بعد انتظار طويل دام أكثر من عشرة أعوام. كانت تلك الطفلة قرة عينيهما ولم يكتب لهما الله الإنجاب من بعدها، فعاشت في ظل أحضانهم الحانية الدافئة ودخلت في مراحل التعليم. كانت الطفلة تشعر بالسعادة في حياتها إلا أنها كانت دائمًا تحلم بما هو خير من ذلك، لم تكن كباقي زميلاتها تحلم بالأطفال والأمومة وفارس الأحلام بل كانت أحلامها مختلفة، كانت أحلامها تدور في فضاء أرض غير الأرض وسماء غير السماء، كانت تحلم بقصر تعيش فيه وخضرة تحيط بها وكؤوس تشرب منها وأجواء ليس فيها صيف ولا شتاء، كانت تحلم بالربيع الدائم. وفي يوم، وبعد أن أكملت الطفلة عامها الثاني عشر بأيام قليلة، إذا بالزائر يدخل عليها غرفتها وهي نائمة، وعندما شعرت به فتحت عينيها وابتسمت ابتسامة أضاءت لها الحجرة المظلمة، فكل ما شعرت به تجاه هذا الزائر هو أنه جاء ليأخذها إلى دنيا طالما حلمت بها، فاستسلمت له بسهولة وأسلم الزائر روحها إلى بارئها. ولأن البشر لا يعلمون الحكمة الإلهية الرحيمة فقد سخط أهلها على ما حدث، وتنوعت أقوالهم الصارخة الهلعة بين سؤال عن السبب واستصغار للعمر ودعاء على النفس، إلا أن كل ذلك لم يفدهم بشيء، فالأمر كان قد نفذ بالفعل، واضطروا في النهاية إلى الاستسلام بدلاً من التسليم فغسّلوها وكفّنوها وحملوها فوق الأعناق وواروها التراب.

ويظل الزائر يدور في الطرقات ويزور الديار، زيارات ليست بأمره ولا بأمر من يزورهم على اختلاف أعمارهم وأشكالهم ومصائرهم، زيارات مفاجئة لا تتقيد بمكان أو زمان، زيارات تزرع الخوف والجزع في قلوب والسعادة أو الحسرة في أرواح، زيارات تقرب البعيد وتبعد القريب، زيارات تعلن نهاية البداية وبداية اللانهاية.
وتستمر الحياة ..... وتستمر الزيارات .....

الأحد، 14 يونيو 2009

وصمت بداخله كل شيء


دقت أجراس الليل تعلن الرحيل، وبزغت خيوط الفجر تعلن الوصول، بدأت نسمات الفجر العليلة في الهبوب، رقيقة كالحرير، باردة كمياه البحر في صيف قائظ، مريحة كفراش وثير، بدأت الديوك في الصياح، وبدأت النجوم في الاختفاء، بينما ظل القمر منيرًا رغم النور الذي بدأ يظهر في السماء شيئًا فشيئًا فشيئًا. بدأ لون السماء يتغير ويتغير، وكلما تغير لون السماء زادت في الصفاء وتخلصت من بقعها السوداء وكأن الدنيا بدأت في خلع ثيابها السوداء، ثياب الحداد، ثياب الحزن، لاستقبال شروق شمس جديدة، شمس الأمل، شمس الحياة. بدأت الطيور تخرج من أعشاشها، تبحث عن رزقها، تطارد الأمل، تحلق في الآفاق، تغرد معلنة عن سعادتها، عن فرحتها بحريتها وتمتعها بجمال الطبيعة من حولها غير عابئة بما حولها.

لم تكن الطيور أثناء طيرانها تلاحظ هذه العيون المراقبة لها، لم تر هذا التأمل، لم تر هذا السكون وهذا الشرود. كان "حالِم" يراقب الطيور من شرفته، يراقب الطبيعة، يسرح بعينيه وخياله مع هذا الإبداع الإلهي الذي يتغلب على كل شيء بداخله، يتغلب على حزنه، على شروده، على ذكرياته ... الذكريات. كان حالم ينتظر شيئًا ما، كان يطارد خيوط النور في الآفاق باحثًا عن مصدرها، عن الشمس ... نعم إنه الشروق، بدأ قرص الشمس الأصفر المهيب في الصعود بسرعة أمام عينيه. لم يتمالك حالم نفسه فشعر بقشعريرة في جسده كله، ياله من جمال، ياله من مشهد مهيب.

بدأ قرص الشمس الأصفر الكبير يرتفع أكثر وأكثر، فجأة أحس حالم بأن قرص الشمس الذهبي انفجر أمام عينيه مصدرًا ضوءًا قويًا تغلغل داخل جسده، تغلغل داخل روحه، تغلغل داخل عقله، رجع به إلى الوراء قليلاً، إنها الذكريات ... إنه الشروق ... شروق الحب.
بدأ حالم في تذكر أحلى ما في الحياة، إنها "حياة" .. من أحب .. بدأ منذ ولادة حبه لها، إنها الذكريات ... بدأ حالم يتذكر أولى النظرات، وكيف شعر بهذه السخونة تنبعث من كل مكان بجسده حين رآها، كيف كان قلبه يخفق بشدة حينما تلتقي عينيه بعينيها، كيف كان لا يتمالك نفسه حين تتحدث معه برقة، وبمجرد ذهابها عنه يضع كفيه على رأسه ويظل يتابعها بعينيه حتى تغيب عن نظره، يقفز في الهواء، أو يضرب جبهته بكفه، أو يركل أي شيء أمامه متمنيًا أن يستطيع تجميع شجاعته في المرة القادمة كي يتمكن من مصارحتها بعشقه لها. إنه يتذكرها وهي تضحك، إنه يضحك الآن، كان لا يتمالك نفسه حينما تضحك أو تبتسم، فكان يضحك معها لمجرد شعوره بسعادتها، لمجرد رغبته في مشاركتها أي شيء، وكل شيء. لمعت عينا حالم، لمعة بلون الشمس الأصفر، إنها لمعة الحب في عيون لم تنم ليلة واحدة منذ أن ابتعدت عمن تحب. تحولت لمعة الحب إلى لمعة حزن، ولدت دمعة في عين حالم، كبرت هذه الدمعة حتى أحس بثقلها على جفنه، لكنه لم يسمح لها بالانطلاق، مسحها بيده واتجه إلى غرفته.

لم يكن أمام حالم ما يفعله الآن حيث صلى الفجر كعادته، إلا أنه لم يفته أن يصلي صلاة الضحى قبل أن يتجه إلى سريره، أراد حالم أن ينام، أن ينام كثيرًا، أراد أن يوقف سيل ذكرياته قبل أن تصل إلى حد الطوفان، لم يرد أن يغرق فيها، حاول الهروب وكان النوم خير وسيلة، ونام حالم، نام طويلاً ... طويلاً ... حتى استيقظ قبل صلاة العصر بوقت قصير، نهض من على سريره مسرعًا، ذهب إلى دورة المياه فتوضأ وخرج فصلى الظهر، وانتظر حتى صلاة العصر فصلاها وأتمها. اتجه حالم إلى الشرفة الواسعة، شرفته التي تقع في الدور الأخير من مبنى سكني ضخم يطل على نهر النيل مباشرة، جلس حالم وقام بتشغيل شريط كاسيت لأم كلثوم التي طالما عشقها منذ صغره، كانت الأغنية هي أغنية "بعيد عنك". نظر حالم إلى السماء وكانت شديدة الزرقة، إنها الزرقة نفسها التي اكتست بها السماء في يوم لم ولن ينساه حالم، بدأت الأغنية وبدأت معها الذكريات...

كان في يوم كهذا ينظر إلى معشوقته الثانية، السماء، التي تلونت يومها بالزرقة نفسها، كان ينظر إليها ويحلم، يحلم بالمستقبل، يحلم بالأسرة، يحلم بالأولاد والبنات، إلى أن اخترق أحلامه صوت سمعه وكأنه آت من بعيد، إنه يقترب وكأنه يسحبه إلى دنيا الواقع، ينزله من السماء إلى الأرض، كان الصوت هو صوت هاتف حالم المحمول، حيث جاءه الخبر المشئوم، حادث أصاب قلبه في أعز ما يملك، أصاب حياة، وجعلها طريحة الفراش في مستشفى على أطراف القاهرة. بدأت أم كلثوم في الغناء ولكنها لم تجد من يسمعها حيث غاص حالم وتعمق في بحر ذكرياته، وصلت الأمواج بحالم إلى لحظات أخرى، هذه اللحظات التي وقف فيها أمام المستشفى بعد أن علم خطورة حالة حياة، وقف في الفناء الفسيح أمام المستشفى وكانت السماء قد أظلمت.

كانت المستشفى خلف ظهره، وكانت الرؤية متسعة أمامه في هذا الفضاء الفسيح، لكنه لم يكن يرى أمامه سوى طريق طويل مظلم بلا نهاية، وسماء سوداء شاسعة أحسها في هذه اللحظات القليلة باردة، لم يكن يرى سوى مآذن مسجد بعيد، كانت المآذن منيرة متلألئة، كان المسجد هو الشيء الوحيد الراسخ والثابت على هذا الطريق الطويل، أحس حالم ببعض السكينة من هذا المشهد بعد أن غمره الظلام بالخوف، اغرورقت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى بيت الله فأخذ يدعوه آملاً أن يتقبل منه دعاءه.

أفاق حالم على صوت أم كلثوم وهي تقول: "لا نوم ولا دمع في عنيا .. مخلاش الفراق فيا" كانت هذه الكلمات بمثابة النَفَس الذي التقطه حالم قبل أن يعاود الغوص في بحر ذكرياته. كانت هي نفس السماء الزرقاء ونفس العينين المتطلعتين المتأملتين في أسرارها، جاء الخبر، انتهت حياة، إنتهت حياة حياة. وهنا انفجر صوت في أذني حالم ارتج معه جسده كله. كان هذا الصوت هو صوت النهاية، نهاية الوجه الأول من الأغنية، والوجه الأول من حياة حالم.

قام حالم بتغيير الوجه ثم انطلق مرة أخرى مع ذكرياته، إنه يقف الآن في المستشفى ينتظر ... ينتظر جسد حبيبته الذي طالما تمنى أن يحمل حبه وأحلامه ومستقبله، كانت قدميه ترتعش، كانت يديه الباردة ترتجف، لكن عينيه ظلت جامدة صافية من أية غيمة قد ينتج عنها قطرة من المطر، أما السماء فلم تكن صافية هذه المرة حيث شابها الكثير من الغيوم.

خرج الجسد محمولاً إلى المسجد لكن لم يصَلَّى عليه حيث كان وقت صلاة المغرب قد حان، صلى الجميع صلاة المغرب وانتظروا أن يصلوا عليها، على حياة، التفتت عيني حالم الزائغتين في أنحاء المسجد إلى أن وقعت على النعش، وهنا انتابه شعور قاس عنيف، شعر حالم بأن كل شيء بداخله قد صمت، صمت لسانه، صمتت مشاعره، صمت خياله، صمت طموحه، حتى قلبه لم يعد يشعر بدقاته، انتهت حياة، لكن حياة حالم لم يقدر لها الله أن تنتهي.

صلى حالم على حياة، وأثناء الصلاة لم يتمكن من الحفاظ على صرامة عينيه وجمودها، فانفجر في البكاء حيث لم يعتد البكاء إلا بين يدي ربه، وهو يصلي، أفاق حالم مرة أخرى على صوت أم كلثوم "فين أشكيلك فين .. عندي كلام وكلام وحاجات .. فين دمعك يا عين .. بيريحني بكايا ساعات"، انطلقت دمعة من عيني حالم باحثة عن الراحة إلا أنها تاهت وجفت على وجهه قبل أن تصل به إلى الراحة المنشودة. ثم بدأت رحلة جديدة في طريق الذكريات...

لم يستطع حالم حتى بعد مرور أكثر من عامين أن ينسى هذه اللقطات، هذه اللحظات الأخيرة لجسد حياة على وجه الأرض، محمولاً على الأعناق، قبل أن يوارى التراب، لم يستطع حالم حمل الجثمان مع الآخرين، كان النعش أثقل عليه من الآخرين. حوى هذا النعش الكثير لحالم، حوى قلبه وروحه اللذين امتزجا بقلب وروح حبيبته، حمل طموحه ومشاعره وحبه، لم يستطع حالم أن ينسى مشهد القماش الأبيض وهو يوارى التراب، لقد فقد أعز ما لديه، لقد فقد كل ما لديه.
انطفأ الكاسيت مرة أخرى لكن لم يهتز معه جسد حالم هذه المرة، حيث إن ثقل أزمته وقوة حزنه وتدفق ذكرياته قد غلب على الجزء الخاص بحاسة السمع في عقله فما عاد يسمع إلا أصوات الماضي. في آخر الليل بعد أن عاد حالم إلى منزله بعد أن أخذ العزاء بنفسه، قرر أن يصلي ويدعو لمحبوبته وبالفعل صلى ودعا الله، وانتظر حتى صلى الفجر، تمنى أن يراها في منامه، تمنى أن يطمئن عليها، وبالفعل رآها وكأنها تطمئنه عليها، جاءت إليها ووضعت يدها على صدره فبردت من ناره، وهدأت من روعه، لكنه استيقظ من نومه الذي تمنى ألا ينتهي، لم يكن يعلم إن كانت هذه الرؤيا حقة أم من وحي خياله، لكن ما عرفه وما أحسه هو الراحة ... فقط الراحة، نام مرة أخرى باحثًا عن حبيبته ولو في أحلامه، لكنه لم يرها هذه المرة، استيقظ من نومه، شعر أن كل ما مر به مجرد كابوس لكنه لم يلبث أن أدرك الحقيقة، بدأ يتذكر كل شيء فيها، نظرتها، ابتسامتها، حبها، حنانها، كل شيء، فبدأ الحزن يملؤه مرة أخرى، كان حالم يعلم أنه يحارب الزمن، وأنه يحارب الذكريات، إنه يحارب في جميع الاتجاهات ... فهل يصبر على ذلك؟ فهل ينتصر؟ كان جواب أسئلته معلقًا بشيئين؛ الزمن والنسيان.

انتبه حالم هذه المرة على مشهد أثار في نفسه الكثير من الشجن، لقد سرقه الوقت واستحوذت عليه الذكريات، إنه غروب الشمس. بدأ حالم ينظر إلى السماء المحمرة وإلى كرة الشمس وهي تختفي خلف السراب، فأحس بالكثير من الأشجان بداخله، كانت الشمس تغيب وكأنها تغرق، لكن هذه المرة لم تكن تغرق في نهر النيل أو في بحر كبير، كانت تغرق في محيط لا نهائي من الظلال الرمادية الممتدة، كانت تغيب خلف ظلال المساكن البعيدة، خلف ظلال الأحلام المحطمة، كانت تغيب بين ظلال البشر، كانت تغيب خلف الرماد المتبقي من لهيب المراهقة .. الحب .. الشباب .. الحنين، كان اللون الأصفر يتحول إلى الحمرة، إلى قمة الاشتعال واللهب، ثم يصير إلى اللون الرمادي معلنًا النهاية، نهاية الشمس في حياة حالم، نهاية الأوج، أوج الحب والمراهقة، أوج المشاعر المرهفة، أوج الحس الراقي تجاه دنيا العشق، كان حالم يعلم أن الشمس سوف تشرق مرة أخرى، لكنه لم يكن يعرف إن كانت سوف تشرق عليه وهو فوق سطح الأرض أم بين جنباتها، لكنها سوف تشرق.....

الذين هم في صلاتهم خاشعون


وأخيرًا عدت إلى المنزل... لقد كان يومًا طويلاً وشاقًا بالفعل مر وكأنه عام كامل مليء بالأحداث. وبمجرد أن فتحت الباب ودخلت لم أفكر في الجلوس طويلاً أو الاستراحة، فقد اعتدت عندما أعود إلى المنزل مهما كانت درجة إرهاقي ألا أستريح قبل أن أنهي كل ما أرغب في عمله من أشياء، وأول وأهم هذه الأشياء الصلاة. إنني لم أستطع أن أصلي صلاة العشاء اليوم في المسجد، حيث انشغلت بالكثير من الأمور – شبه المهمة – التي حالت بيني وبين الصلاة. وبما أن وقت صلاة العشاء "ممتد" حتى صلاة الفجر فقد فضلت تأجيلها إلى حين عودتي إلى المنزل. بدلت ملابسي ثم توضأت وأحضرت سجادة الصلاة وحاولت تجميع تركيزي كي أتمكن من الوصول إلى الخشوع المطلوب في الصلاة، فقد كنت في حاجة ماسة إلى الصلاة، حيث كان لدي الكثير من الأعباء والمشكلات والأفكار التي لا يمكن أن أستريح منها إلا من خلال الصلاة. نويت الصلاة وبدأت بالفعل..


الله أكبر... بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم...


لقد كان يومًا شاقًا بالفعل منذ أن استيقظت في الصباح وأنا أشعر أنه سيكون كذلك، ومنذ أن خرجت من بيتي ورأيت جارتنا كثيرة الكلام هذه وأنا متشائم..


ولا الضالين .. آآآمين (اللهم لا تجعلنا من الضالين)


بسم الله الرحمن الرحيم * قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون.....


لقد كان العمل شاقًا اليوم ولكن ما زاد من تأثيره السيئ علي رئيسي في العمل، لقد كان اليوم مملاً وروتينيًا كعادته، ولا أعرف كيف تحكمت في نفسي ولم أرد عليه عندما اتهمني بالتقصير في بعض الأعمال، أنا المقصر أنا؟!!!! إنه يغيب عن العمل ويتأخر كثيرًا وفي النهاية كالعادة أكون أنا المقصر. يا إلهي. لن أسمح له في المرة القادمة بتوجيه مثل هذا الاتهام إلي.


الله أكبر...

سبحان ربي العظيم ....


وما زاد من مأساة هذا اليوم الممل الصعب أنني لم أحصل على أجر مناسب على العمل الحر الذي أمارسه بعد عملي الأساسي، كيف أحصل اليوم على خمسين جنيهًا فقط!! إنني أعترف أنني كنت أسعى طويلاً للحصول على أي عمل أمارسه بعد عملي الأساسي لزيادة دخلي دون فائدة إلى أن منَّ الله علي بهذا العمل، ولكن خمسون جنيه!!! مبلغ غير مناسب بالمرة.


سمع الله لمن حمده... ربنا ولك الحمد والشكر، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا ترضاه.


الله أكبر...

سبحان ربي الأعلى...


مع كل ما عانيته في يوم العمل الطويل اليوم إلا أنه من حسن حظي وجدت بعض الوقت لأمضيه مع أصدقائي، لقد قابلتهم في "وسط البلد" وأخذنا نمشي في الشوارع المزدحمة نضحك ونتسامر ونتحدث ونجتر ذكرياتنا الجميلة عن أيام الدراسة في مراحلها المختلفة وخاصة الجامعة، وعن أساتذتنا وأصدقائنا وما كان يحدث بيننا من مواقف ضاحكة رسمت السعادة على وجوهنا، لقد كانت بالفعل أيامًا رائعة لا تمحى من الذاكرة بعيدًا عما نعايشه الآن من أيام العمل الطويلة المرهقة والمسئوليات الملقاة على أعتاقنا والتفكير في المستقبل والسعي خلف لقمة العيش. لم يكن هناك ضرب في الظهر أو إيذاء متعمد أو محاولات لتسلق السلم الوظيفي من خلال التودد والتقرب إلى الرؤساء وعمل العلاقات المشبوهة مع الآخرين. كانت الضحكة تخرج من القلوب دون تفكير وبتلقائية شديدة ماحية معها أي أثر لأية هموم – إن وجدت – ومبشرة بغد أفضل وحياة سعيدة.


لقد أعجبني اليوم نقاشاتنا عن الواقع الذي نعايشه الآن والفرق بين الماضي والحاضر وتوقعاتنا للمستقبل والشكل الذي يمكن أن نصير إليه بعد عشرة أو عشرين عامًا من الآن. نعم، لقد ساهمت تلك الدقائق التي قضيتها مع أصدقائي في التخفيف من هموم العمل التي عانيت منها اليوم ولم يبق سوى بعض الهموم الأخرى التي لا أجد ما يمحيها سوى الصلاة...


الصلاة!!!!!!

يا إلهي!!!!في أي ركعة أنا الآن؟

أهي الرابعة أم أنني سهوت وصليت خمسًا؟!!

إنني لا أتذكر...


حسنًا، أيًا كانت فسوف أجلس للتشهد ثم أنهي الصلاة.


وبالفعل جلست للتشهد ثم سجدت سجدتي السهو – تلك السجدتان التان أصبحتا فرضًا أؤديه في كل صلاة – وسلمت.


بعد أن انتهيت من الصلاة قمت مسرعًا فطويت سجادة الصلاة وانطلقت... ولكن إلى أين؟ لم يكن لدي ما أسرع من أجله فقد انتهى اليوم ولم يبق إلا النوم... إنه لأمر عجيب... أسرع في الصلاة وأسرع في طي سجادة الصلاة وأنطلق بعيدًا عنها دون حتى أن يكون هناك هدف من وراء ذلك الإسراع. ومن الغريب أنه بعد انتهائي من الصلاة لم أشعر بانمحاء ما كنت أعانيه من هموم، تلك الهموم التي اعتقدت أنه لا يوجد ما يمحيها غير الصلاة... إنه حقًا لأمر عجيب!!! أليس لي الحق أن أتعجب؟!!!

الثلاثاء، 9 يونيو 2009

صورة جماعية كبيرة


في الأعوام الأخيرة لاحظت ظهور أشياء عديدة في حياتي لم أكن أعلمها أو أدري بوجودها من قبل، كل هذه الأشياء عرفتها بعد ظهورها حق المعرفة وعرفت طبيعتها وتعايشت معها .. عدا شيء واحد كنت أعرفه منذ صغري لكني لم أكن أتوقع أن أعرف طبيعته أو أن أتعايش معه، لم أكن أدري أن هذا الشيء هو حق يقين لا بد من معايشته حيث كان عقلي الصغير وحبي للدنيا يحولون دون أن أتصور هذا الحق أو أن أعايشه.


كنت أسمع منذ صغري عن الموت وكنت أسأل نفسي سؤالاً محيرًا. أنا أحب جدي وجدتي وأمي وأبي وأخوتي فماذا سأفعل إذا فقدت أحد هؤلاء الأشخاص وهل أستطيع تحمل ذلك؟ ... لا! هذا أمر بعيد – كما تصورته في هذا الوقت المبكر من الطفولة – والموت شيء نظري في حياتي حتى الآن فلم أفكر فيه؟ .... (وكأن الموت قد قُدِّر فقط على من لا أعرفه!) لم أكن أعلم في هذا الوقت أن الموت أقرب للإنسان من نفَسه الذي يدخله ويخرجه من وإلى صدره، وأن كل آت قريب مهما بعدت المسافة الزمنية بين الإنسان وبينه.


فوجئت بموت جدي – أبي الروحي – أكثر من تعلمت منه في حياتي .... بدأ الموت يتحول في حياتي إلى شيء عملي يتحقق ويتحول أمامي شيئًا فشيئًا إلى حقيقة واقعة. هزني هذا الحدث كثيرًا ولكن بفضل ما زرعه جدي فيّ قبل موته من إيمان وصله بالله عز وجل لم أنهار بل تعلمت من هذا الحدث الكثير فكان بمثابة البداية التي أعقبها الكثير من الأحداث المؤثرة في حياتي.


سنة تمر من الحياة ... الحياة التي علمت وقتها فقط أن لها مقابل لم آلفه من قبل ... وإذا بي أفقد جدتي التي كنت أعشقها منذ صغري أكثر من أمي فتأثرت كثيرًا لكن سألت الله الصبر وبالفعل والحمد لله أن ألهمني الله الصبر. وبمرور الوقت بدأت أسأل نفسي؛ ما هذا الشيء الذي يظهر فجأة ولا يختفي إلا مصاحبًا لاختفاء شخص من الأحباب أو حتى من غير الأحباب؟ ما هذا الشيء الذي أصبح وجوده في حياتي شيئًا أساسيًا أراه كل يوم في كل مكان فأسمع عن مقتل عدد في مكان ما وآخر في مكان آخر؟ كان الموت يعرض أمام عيني من قبل في كل مكان لكنه كان مهمشًا وغامضًا فلم أفكر فيه ولا في طبيعته إلا عندما أصاب قلبي في أعز أحبابي!!!

فجأة يموت جارنا الذي قابلته قبل موته بلحظات وكان عندها ماشيًا على قدميه في خير حال، وفجأة يموت أحد أقاربي وهو في ريعان شبابه، وفجأة يموت فلان، وفجأة يموت علان، إذًا فهذا الضيف المريب لا ياتي لزيارة الكبار والعجائز فقط بل يأتي للجميع في أي وقت وفي أي مكان. وتمر الأيام ويضيق صدري وأشعر بحزن شديد ناتج عن تراكم العديد من الأحداث، وإذا بي أشعر برغبتي في الموت. فأصبح هذا الشيء المخيف بالنسبة لي من قبل أملاً أتمنى تحقيقه حتى ولو لم أنطق بهذا الأمل أو أن أدعو الله به.


بدأت أشعر أن الموت شيء نسبي ليس له ميعاد ولا مكان ولا حدود إلا ما فرضه الله على عباده فيما يسمى بالقضاء، وبدأت صورة ما ترتسم في خيالي، فبدأت أتصور الحياة وكأنها صورة جماعية كبيرة تحوي أناس ذوي علاقة اجتماعية محددة أو غير محددة، هذه الصورة المكتملة العناصر لا تلبث أن تفقد فردًا من أفرادها فينقص شكل وبريق ومعنى هذه الصورة حتى إذا بدأ الجميع في التعود على الصورة في وضعها الجديد إذا بها تفقد فردًا آخر، وهكذا فردًا ... ففردًا ... ففردًا، حتى يشعر من تبقى في هذه الصورة بعدم قيمة هذا الإطار الذي جمعهم مع من يحبوا دون أن يحميهم، فيتمنوا اللحاق بهم، وهكذا تصبح الصورة فارغة من أهلها ...

والله أعلى وأعلم بما بعدها ...

بنظرة من عينيه تستريح


كثيرًا ما سألت نفسي عن الخصائص والسمات التي ينبغي أن تتوفر في الشخص الذي أتحدث معه وأشكو إليه ما سأشعر به من هم أو حزن كي أستريح. توارد إلى ذهني العديد من السمات، فأخذت أفندها وأنقحها لأصل إلى أهمها كي أهتدي إلى ذلك الإنسان الذي قد يحمل عني ما يثقل كاهلي من ضغوط نفسية أو تلك الإنسانة التي قد تشاركني ما أتعرض له من أعباء حياتية وهموم عاطفية. أخذت أفكر كثيرًا إلى أن اهتديت إلى اثنتين من تلك السمات تعد أهم الشروط التي توجد في الشخص المطلوب ألا وهما؛ فهمه لي وإحساسه بي. وفي هذا المقام يجب أن أخرج من نطاق الأنا لأعمم وصفي التالي لأهمية هاتين السمتين.




كثيرًا ما يحدث البعض إناسًا عما يعانوه في حياتهم معتقدين أن التخلص من هذه الهموم من خلال التحدث مع أي شخص أيًا كانت سماته سوف يفيدهم ويريحهم، لكنهم يُخرجون كل ما لديهم من ضغوط وأعباء نفسية دون الشعور بأية راحة وكأن شيئًا لم يكن. يكون السؤال آنذاك هو لماذا؟ لماذا لم أسترح بعد أن تخلصت من كل ما أحمله بداخلي من أسرار؟ ومن هذا السؤال ينبثق سؤال آخر، لماذا أستريح عند التحدث مع أشخاص بعينهم دون غيرهم؟ إن السر يكمن في مدى فهم الشخص الذي يتحدث إليه الإنسان له ومدى شعوره بما يكابده من آلام نفسية مما يؤثر بالتالي على إحساس هذا الإنسان بمدى اهتمام هذا الشخص بما يقول وتواصله معه.




عندما تشعر أن الشخص الذي تتحدث إليه يفهمك ويشعر بك وبما تقاسيه من هموم يتوفر أهم العناصر التي تريح الإنسان ألا وهو عنصر المشاركة النفسية والوجدانية، فيشعر الإنسان بالمساندة والدعم بل والاحتواء من قبل الشخص الآخر مما يرفع عن كاهله الكثير من الأعباء النفسية والعاطفية التي يشعر بها. فأحيانًا تتحدث مع شخص وتخبره عن جميع المشكلات التي تكمن بداخلك وتؤرقك ولا يعرفها الكثيرون، وبمجرد أن يستمع إلى كلامك ويتحدث إليك لا تجد لكل ما كنت تقاسيه أي أثر وكأنه يمحي بكلماته همومك وأحزانك مثلما تمحي أمواج البحر نقوش رمال الشاطئ. هل أخبرك بما هو أبعد من ذلك، قد تتحدث إلى شخص عن بعض المشكلات التي تواجهك في حياتك وعندما تنتهي من حديثك تشعر براحة عجيبة كالسحر دون حتى أن يتحدث إليك، فمجرد شعورك بفهمه لك وإحساسه بك واهتمامه بما تقول وتعاطفه معك يغنيك عن كلماته مما يشعرك بالراحة دون أن يتحدث إليك، فاستماعه إليك وحده يكفيك. هل أخبرك هذه المرة عما هو أبعد وأعمق من كل ما سبق. قد تجلس مع شخص تحبه وتستريح له فتشعر بالراحة النفسية دون أن يتحدث إليك بل ودون أن تتحدث أنت إليه. إن نظرة واحدة من عيني هذا الشخص إليك بما تحويه من مشاعر تعاطف وتفهم وإحساس وتواصل تكفيك. إن هذه النظرة هي ترياق كل ما تشعر به من هموم وأحزان، إن هذا الشخص وصل بما لديه من إحساس وتفهم لك وإلمام بخبايا ذاتك إلى درجة تغنيه عن الكلام، بل وتغنيك عن الكلام أيضًا. إنه يفهمك دون أن تتكلم ويشعر بك دون أن تشكو ويعالج مشكلاتك دون عناء، ومن أين يأتي العناء، وكيف يجتمع مع التفاهم والتواصل.




في هذه الحياة التي نحياها لا يجد الإنسان كثيرًا مثل هؤلاء الأشخاص، لأن التفاهم والتواصل أصبحا عملة نادرة يندر تواجدها بين البشر لما في هذه الحياة من سرعة صبغت جميع أركانها وأحالت الناس من محاولة تفهم من حولهم والإحساس بهم إلى الانكباب على مصالحهم الشخصية وتجاربهم الذاتية فأصبح الجميع يرغب في الحديث دون الاستماع، وإذا كان الجميع متحدث فمن المستمع إذًا؟ إذا وجد شخص ما مثل هذا الإنسان الذي لا يحتاج إلى كلماته كي يتواصل معه ويحتويه بنظرة من عينيه، فلا يجب عليه أن يفقده لأن معه راحته، فهو شخص يحتاج إليه وإلى دعمه، هو شخص يفهمه دون أن يتحدث ويشعر به دون أن يشكو أو يبوح. هو شخص بنظرة من عينيه يستريح.

الجمعة، 5 يونيو 2009

تساؤلات


هل تعلمين كيف أعيش بدونك؟ اسأليني عن ذلك وسأجيبك. لا أسمع صوتك ولا أسمع سؤالك، لكني أعذرك وسأجيب لكي عن سؤالي لنفسي.


أتعلمين كيف تكون الأرض بدون زهرتها؟ أتعلمين كيف تكون السماء بدون زرقتها؟ أتعلمين كيف تكون المدينة بدون سكانها؟ أتعلمين كيف تكون أبراج الحمام دون حمامها؟ أتعلمين كيف يكون البحر دون مائه؟ أتعلمين كيف يكون الصدر دون هوائه؟ أتعلمين كيف يكون الجسد دون الروح؟ أتعلمين كيف يكون المستقبل دون الطموح؟


لو أنك تعلمين كل ذلك فإنك تعلمين من أنت بالنسبة لي. فأنت لجسدي الروح، وأنت لمستقبلي الطموح، وأنت لبحر مشاعري الماء، وأنت لضيق صدري الهواء، وأنت لسمائي الزرقة، وأنت لأرضي الزهرة، فالأرض بدون زهر جرداء، والسماء بدون زُرقة غيماء، والبحر بدون الماء جاف، والصدر بدون الهواء غير معاف، والجسد دون الروح هامد والمستقبل بدون الطموح جامد. والآن تعجز كلماتي كعادتي عن وصف حياتي بدونك، فهلا وصفتيها أنت لي ...

سوف أنتظرك طوال عمري.

الأربعاء، 3 يونيو 2009

وغاب القمر


لم يكن يدري عندما خرج من منزله في المساء إلى أين يذهب، كل ما أحس به آنذاك أنه يحتاج إلى شيء ما لا بد له وأن يبحث عنه. وعندما نزل إلى شوارع المدينة المزدحمة المكتظة بالناس بدأ ينظر في جميع الاتجاهات، فلربما وجد ما يبحث عنه أو ما يدل على ذلك الشيء. واستمر في المشي والبحث طويلاً وهو يجوب المدينة، وأثناء بحثه أخذ يتفحص الناس من حوله، ولم يكن تركيزه في هذا الوقت منصبًا على هيئاتهم أو ملابسهم، بل كان تركيزه فقط على وجوههم وملامحهم وأفكارهم ومشاعرهم التي عكستها قسمات وجوههم بشكل لا يحتاج إلى أي تأويل أو تفسير.


وفي طريقه داخل المدينة رأى الكثير والكثير، حيث رأى عيون زائغة تبحث مثله عن شيء ما لا تعرفه ولكنها تدرك أنها تحتاجه، ورأى آذان لا تعي ما تسمع ولا تسمع ما تعي وقد انعكس تأثير ذلك على باقي قسمات وجوههم فغلب عليهم الشرود وعدم التركيز. وفي طريقه أيضًا رأى أفواه تتحرك باستمرار، تلوك الكلام مثلما تلوك أفواه الجمال الطعام؛ في أي وقت وكل وقت. رأى وجوه تضحك حتى البكاء، تعبّ من الضحك قدر ما تستطيع وكأنها تخاف أن تكون هذه النوبة هي آخر نوبات الضحك في حياتهم، ووجوه أخرى لا تحتاج إلى الضحك كي تبكي، ولا تحتاج إلى الدموع حتى يعرف من حولها أنها تبكي، إنها تبكي من داخلها وهذا هو أصعب أنواع البكاء. ووجوه أخرى تضحك ضحك يمتزج فيه الأمل بالخوف، وأخرى تضحك ضحك من لا يبالي بأي شيء وكل شيء، ووجوه تبتسم ابتسامة ثقة وكأنها وجدت ما تبحث عنه وما يبحث عنه الآخرون حتى أنه تمنى لو استطاع أن يذهب إليهم ويسألهم عن نتيجة بحثهم التي وصلت بهم إلى هذا القدر من الثقة ولكنه حين كان يحاول الاقتراب منهم ينظرون إليه نظرة تحوي الابتسامة نفسها وكأنهم يقولون له ابحث بنفسك عن الحل دون أن تستمع إلى الآخرين فما تبحث عنه يكمن داخلك، داخل قلبك وليس فيما تستقبله أذناك من كثير الكلام، وكأنها تقول له أيضًا عليك أن تصل بنفسك أولاً إلى إجابة لكل ما يدور بخلدك من أسئلة كي تجد الطريق ثم أن ترسخ قدميك عليه قبل أن تفتح أذناك إلى كلام الغير. والله في عونك وعوننا.


في هذه اللحظات وجد الرجل نفسه وقد تحولت أنظاره إلى السماء، فإذا بها وقد امتلأت بالغيوم، ولكنه لم ييأس، حيث كان يعلم أن القمر موجود في مكان ما خلف هذه الغيوم، ولكن بحثه الطويل وتطلعاته إلى السماء لم تسفر عن شيء حتى شعر باليأس وقرر أن يعود إلى منزله.


وفي المنزل اتخذ قرارًا آخر وهو التوقف عن التفكير والبحث قليلاً وكانت الوسيلة الوحيدة لذلك هو التلفاز، فقام بتشغيله وأخذ يتنقل بين قنواته المختلفة من قناة دينية إلى أخرى إخبارية إلى قناة ثقافية إلى رياضية إلى غنائية إلى قنوات الأفلام والمسلسلات، ولكن كل ذلك لم يقتل روح البحث التي ولدت بداخله في هذا اليوم ولا أمله في إيجاد ضالته المنشودة. وفي خطوات سريعة أوقف التلفاز واتجه إلى النافذة الكبيرة الموجودة في غرفته والتي لا يحجب السماء عنها أي شيء.


وأثناء نظره إلى السماء بدأ يسمع بعض الأصوات التي جاءت في شكل همس خفيض لم يمكنه من التعرف على ماهية هذه الأصوات. وما لبثت هذه الأصوات أن بدأت في الارتفاع حتى تمكن من تمييزها. إنها أصداء للأصوات التي سمعها اليوم في الشارع والتلفاز وغير ذلك من الأماكن والوسائل، ولم تكن هذه الأصوات هي حصاد أصوات اليوم فقط، بل وكل يوم. لم تكن هناك جمل متتابعة أو منظمة أو واضحة المعالم أو مختصة بمجال واحد أو موضوع واحد، بل جاءت الأصوات في شكل جمل متداخلة لمواضيع متشرذمة يشل تداخلها وتتابعها الفهم والتفكير ويخرج السامع عن تركيزه وصبره. لم يتوقف ارتفاع هذه الأصوات ولم يتوقف تداخلها حتى بدأ الرجل في الاضطراب والتوتر......


الأطفال والنساء يقتلون ..... أدعوكم للدخول معي إلى الجنة ..... سمعت آخر نكتة ..... دول عالم رغايين أوي ..... الولايات المتحدة تكيل بمكيالين ..... هنروح السينما النهاردة ..... الحياة بقت صعبة أوي ..... انت مبتصليش ليه، متصلي ..... الأموال العربية في البنوك الأمريكية تتعدى المليارات ..... أسلحة محرمة تستخدم ضد المدنيين ..... هو الماتش الساعة كام ..... الأسعار مولعة والحاجة غليت ..... فين أيام زمان ..... انقسام الصف العربي ..... معنا تعرف الطريق إلى الله ..... السهرة فين النهاردة ..... يمكن بكره يبأى أحسن ..... الأغنية دي جامدة جدًا ..... وبعدين بس ..... يا رب .....


وكلما مر الوقت كانت الأصوات ترتفع أكثر وتتداخل أكثر وتتشرذم أكثر، ومع ارتفاعها وتداخلها وتشرذمها يزيد توتر الرجل وتتزايد ضربات قلبه وسرعة تنفسه وترتعش أطرافه ....


ده إجرام ... اتباع السنة ... أغنية جامدة ... وبعدين ... عادي ... الروتين ... امتى بأه؟ ... مش قادر على نفسي ... هنحرر القدس ... عايز أموت ... بكره أحسن ... مكتئب ... سعيد أوي ... حلمي صغير والله ... الجهاد ... الفساد ... الملل ... تعبت أوي ... يااااارب ... الابتسام ... إنها بدعة ... سبعمائة قتيل ... البلد باظت ... الدين المعاملة ... وكل بدعة ضلالة ... السياسة ... الجهل ... الكورة ... الحب ... وكل ضلالة في النار ...


في النار ......

في النار.....

في النار...


.اسكتوووووووووووووووووووووووووووووا


قالها بأعلى صوته وبكل ما أوتي من قوة حتى سمع صداها من حوله مرات وسمع صداها بداخله آلاف المرات. وبعد أن قالها ساد الصمت من حوله، وبداخله، وبدأت دقات قلبه في العودة إلى طبيعتها وأنفاسه في الانتظام وأطرافه في السكون ثم نظر نظرة أخرى إلى السماء فوجد بعض النجوم وقد ظهرت من خلف الغيوم وانتظمت وكأنها ترسم له الطريق ووجد القمر وهو يشق طريقه من وراء الغيوم وكأنه يذيبها ليجد ضوءه طريقه إلى عيني الرجل. وعندما وصل ضوء القمر إلى عيني الرجل، شعر وكأن القمر قد اتخذ من عينيه نافذة يعبر بنوره من خلالها إلى روحه ويجري مع دمه في عروقه، فإذا بالنور وقد ملأ جميع خلجات نفسه، وإذا به يشعر براحة كبيرة وكأن نسمات الهواء الباردة التي هبت عليه آنذاك قد تغلغلت داخل جسده وروحه مع نور القمر لتطفئ نيران عقله، وشعر بأنه قد وجد الإجابة على جميع الأسئلة الملحة التي تدور بداخله ولم يتبق لديه سوى ترسيخ قدميه على الطريق. وكانت الإجابة هي الشيء الذي اجتهد كثيرًا في البحث عنه دون أن يعرف ماهيته؛ ألا وهو الحب، فقد بدأ يشعر بنسمات الحب الجميلة وقد ملأت كيانه. بدأ الرجل يشعر بحبه لله وللرسول وآله وصحبه وتابعيه، وبدأ يشعر بحبه لأهله وجيرانه وأصدقائه ولكل الناس، شعر الرجل بأنه قد وجد مبتغاه أخيرًا وأنه لم يبق له سوى التفكير في العبادات والمعاملات التي تترجم هذا الحب وتثبت قدميه على أول الطريق الصحيح، وكان أثناء تفكيره يشعر بقمة السعادة، ولكن هذه السعادة لم تستمر طويلاً ... حيث بدأ الهمس من جديد ... وغاب القمر خلف الغيوم السوداء ...